5/20/2011

كلمة وداع

أخرج من عيادة الطبيب ..أركب سيارتى و أتجه الى المكان الذى سأسكنه بعد أيام قليلة كما قال لى الطبيب..أغلق باب السيارة و أذهب لأتجول فى سكنى الجديد و أحاول التعرف على جيرانى الجدد الذين لا يتحدثون ابداً ..
انها المقابر التى تبدو كئيبة للبعض بينما يعتبرها البعض الاخر- و أنا منهم – مكاناَ شاعرياً ..ها هو الظلام الدامس يغلف المكان و الشواهد ترتفع لتعلن عن حيوات ناس عاشوا كثيراً قبل أن يصلوا الى سكنهم ..صوت ذئب – و ربما كلب – يعوى من بعيد ليضفى احساساً بالغموض على المشهد ككل..أمسك الأوراق التى ذهبت بها للطبيب و أخرجها من الحافظة لأشعل بها النار بقداحتى و أرميها ارضاً و أجلس فأسند ظهرى الى أحد شواهد القبور و أنظر الى النيران المشتعلة و الى الصورة المهتزة من خلفها ..ان حياتى ككل مهتزة و مشوشة مثل هذة الصورة ...انى اتسائل من أشعل النيران فى حياتى ليحدث هذا التشويش ...لا أعرف الاجابة ...من المؤكد أننى أنا من أشعلت تلك النيران عن عمد أو عن غير عمد....لا يهم ..المهم الان هى مريم..تلك الفتاة يتيمة الأب التى كتب عليها ايضاً أن تكون يتيمة الأم ..كيف ستعيش بدون أم ايضاً ؟؟ أنا كل حياتها...ابدأ فى البكاء عند التفكير فى مريم فيصير المشهد خيالياً .....مقابر و ظلام و برد و كلب يعوى و  سيدة تجلس أمام كومة من الأوراق المشتعلة تبكى فى حرقة ...انه مشهد جدير بأن يسجل فى ذاكرة من يراه الى الأبد...مريم ابنتى الوحيدة التى هى ما أملك فى هذة الدنيا بعد وفاة أبيها الشخص الوحيد الذى أحببت فى هذة الدنيا..يبدو ان اليتم وراثة فى عائلتنا ..أنا ايضاً ولدت يتيمة الأم فأمى فقدت حياتها مقابل أن توهبنى الحياة ...و أبى أتذكره فقط فى أيام الطفولة ...من المؤكد أنه كان حنوناً لكنه رحل الى العالم الاخر لاحقاً بأمى و تاركنى فتاة صغيرة ...تولى خالى تربيتى بعدها لعدة سنوات حتى قررت الرحيل من المدينة و الذهاب الى العاصمة من أجل الدراسة التى كانت حجة فقط من أجل الاستقلال الذاتى فقد كنت دائماً ما أشعر اننى عبئاً على خالى و اسرته الفقيرة ..لا تهم التفاصيل..المهم انى درست و عملت و جمعت مالاً كثيراً مكننى من أن يعتبرنى الاخرون فتاة ناجحة ...لم أفكر ابدأً فى الارتباط و كنت دائماً أعنى فقط بعملى فى تصميم الأفراح  و دراستى فى الديكور حتى قابلت مروان و تغيرت من بعدها حياتى و الحقيقة أنه كان رجلاً مثالياً من وجهة نظرى..مصمم ديكور متميز و ناشط سياسى من الطراز الأول ...تزوجنا فى هدوء و سرعة و سرعان ما أثمر زواجنا عن مريم...بعدها فقدت مروان و تماسكت فلقد تعودت دائماً أن تسلبنى الحياة من أحب منذ الصغر...قتله ضابط شرطة فى مشاجرة فى الشارع..مروان الذى عاش حياته كلها فى النضال السياسى يموت فى مشاجرة فى الشارع و ليس فى مظاهرة أو فى معتقل ...مروان الرجل اليسارى المناضل يقتله شخص بلا سبب الا أنه طلب منه أن يعامل سائق تاكسى باحترام ..فيما بعد ظل مروان لفترة حديث الصحف و المجتمع و غيره ثم انشغل المجتمع كله فى قضايا أخرى و نسوا مروان ...الجانى لم يفلت بجريمته و قرأت أنه قتل على يد متظاهرين فى الثورة التى قامت فى بلدنا منذ عدة سنوات ....
حقيقة لا أفهم شيئاً فى السياسة و أشعر أنها لعبة أكبر من أفهمها ...فقط بدأت أتابعها عندما عرفت مروان كنوع من مشاركته لاهتماماته كأى امراءة تعرف كيف تكسب قلب رجلها ثم تركتها بعد وفاته و عدت لمتابعتها على مضض أيام الثورة و بعدها سأمت مجدداً و قررت التركيز فى عملى و ابنتى مريم فقط لا غير ...
بدأت نيران الأوراق تخبو فقررت الرحيل لقضاء بعض الوقت بجوار مريم قبل أن أودعها للأبد و أثناء الطريق كنت أفكر فيما يمكن عمله معها ..كنت أملك الكثير من المال مما يؤمن مستقبلها بالاضافة الى وثيقة تأمين على حياتى بمبلغ نصف مليون جنيهاً ستصريف لمريم بعد عدة أعوام مما يأمن لها مستقبلها و لكن المال ليس هو كل شىء فلابد أنها تحتاج الى رعاية و عناية و خصوصاً فى سنوات عمرها الحرجة ..استقريت على أن تذهب للحياة بأحد المدارس الداخلية بعد وفاتى و أنا واثقة انها ستكون فتاة يعتمد عليها و ستخطو خطوات واثقة فى حياتها دون مساعدة من أحد تماماً كما فعلت أمها ..قررت مصارحتها بالأمر فى الأيام القادمة و أنا أعتقد أنها تشعر أن شيئاً ما ليس على ما يرام منذ شهور عندما بدأت تداهمنى الالام التى لا تطاق فى رأسى...
أصل الى البناية العالية التى أقطن بها ...أغلق سيارتى و أصعد الى الشقة ..من المؤكد أن مريم نائمة الان فالوقت قد تأخر ..حسناً سأجلس بجوارها لأنظر اليها ملياً قبل أن تغيب صورتها عنى ....هل سيمكننى فى العالم الاخر أن أعرف اخبارها ؟ لو أمكن هذا سأكون فى غاية السعادة ..
أخطو خطوات هادئة حتى لا أزعجها فى نومها...ما هذا ؟لا يوجد أحد بالمنزل...أرفع صوتى بالنداء عليها و لا أجد رداً ...كالملسوعة أجرى الى هاتفى المحمول الذى كان مغلقاً فأفتحه و أطلب مريم فلا ترد ..ازداد انزعاجاً و لا أدرى ماذا أفعل ..الهاتف يرن ..أرد " الو ...حضرتك والدة مريم ..." " مين معايا " ...." احنا مستشفى ...بنتك وصلت فى حادثة عربية من 3 ساعات و بنكلم حضرتك و التليفون مقفول و مفيش حد تانى نبلغه ..يا ريت تشرفينا ..." ..أغلق الخط و أجرى كالمجنونة لألحق بابنتى فى المستشفى القريبة من المنزل ....أصل الى المستشفى و اسأل على مريم صارخة بعد أن فقدت كل ما تبقى من أعصابى ...يخبرونى انها فى العمليات بعد أن أصيبت بنزيف داخلى فى المخ ...بعد ساعة مرت على كأنها أطول من كل حياتى ..خرج على طبيب هادئ " البقاء لله ..شدى حيلك ..." ..أنهار داخلياً و يبكى كل جزء فى و لكننى أتماسك ظاهرياً ..أقسم بالله لست أدرى حتى الان كيف تمكنت من الوقوف و الكلام مع الطبيب و لا كيف دخلت الى غرفة العمليات و قبلت جثمانها وودعتها للمرة الأخيرة ..
الان أنا فى المنزل أكتب هذة الكلمات الى تحكى قصتى و قد شعرت بارتياح لأننى سأموت و الحق بمروان و مريم ..فلا شىء لى فى هذا العالم الان ..
الوداع ...


No comments:

Post a Comment