10/19/2011

المشعوذ


يحكى أنه فى قرية صغيرة فى بلد كبيرة فى يوم من أيام الزمان حدثت قصة مريرة.
كان أهل القرية أناس طيبون , فى الأرض هم يعملون , يأكلون و يشربون مما يزرعون و لكنهم للأرض لا يملكون بل يملكها حاكم ملعون.
هذا الحاكم كان فلاحاً فى الأرض مثلهم و لكنه كان أذكى منهم فملك أمرهم و صار كبيرهم , فى كل الأمور اليه يرجعون و عندما يختلفوا فبه يستنجدون و هو يستفتون.
كان يدعى العدالة و هو أبعد عنها ما يكون.
كان يدعى الحكمة و بالنساء هو مفتون.
كان الأهالى صابرين يعملون فى الأرض طوال النهار و فى الليل ساعتان لخدمة الحاكم يتطوعون, كان هذا هو القانون , و كانوا له يمتثلون.
كانوا لله شاكرين , يقولون بينهم و بين بعض نحن أفضل من الكثيرين.
نأكل و نشرب و نتزوج فهل هناك ما هو أفضل من ذلك؟! اننا لسنا بجاحدين.
و من بين أناس القرية خرج شباب متعلمون , فى الكتب كانوا يقرأون فوجدوا أنهم ليسوا أفضل من الكثيرين و تسألوا لماذا نحن صابرين ؟
أيعقل أن نزرع الأرض و نحصدها فنأخذ فتاتاً و يأخذ الظالم معظم المحصول؟ اننا أصحاب الأرض الحقيقيون و ما هو الا فلاحاً مثلنا و لكنه علينا طغى و استكبر و لقد حان أوان العدل ليسود و يكون.
ذهل الأهالى من الكلام الغريب , انهم لم يسمعوا مثل هذا من قبل و ان الأمر لعمرى رهيب.
قال قائل منهم " بل يكفينا ما يعطينا الحاكم – أطال الله بقاؤه – و لا نكن طماعين"
و رد اخر: " كلا, الشباب محقون , لماذا نحن صابرون ؟ ان هو الا عمراً واحداً فلنعشه على أحسن ما يكون "
فرد عليه ثالث يقول: " و ماذا عسانا فاعلين ؟ سنظل فى ديارنا حتى يرحمنا أرحم الراحمين فيخلصنا من الطاغية و يسود العدل القرية أجمعين"
قال الشباب متحمسين : " بل نتوكل على الله و ننتزع حقنا بأيدينا , ان الله لا يضيع أجر المحسنين"
و استمر النقاش و الجدال أياماً و ليال حتى علم الحاكم بالأمر فقال:
" أطمعتهم و كسوتهم و انى اراهم ساخطين ! أرسلوا البصاصين و ليأتونى بالخبر اليقين ".
و بعد يومين أتى البصاصون و دخلوا على الحاكم رعباً يرتجفون و هم يقولون : " مولانا , انهم الى هنا قادمون , ليس معهم سلاحاً و لكنهم كثيرون ".
قال الحاكم و قد استبد منه الخوف : " أرسلوا فى طلب المشعوذ"
رجل عجوز عيناه واسعتان تنظران نظرتان واثقتان , دخل على الحاكم و قال بامتنان : " فليجعل الله أيامك سعيدة يا مولاى يا حاكم كل عصر و أوان "
كان الحاكم خائفاً و كان ذلك واضحاً فتكلم قائلاً : " انقذنى ايها المشعوذ , لم يبق لى غيرك , هلكت القوات و الجنود و الأهالى مصممين على الصمود. فماذا عساك فاعلاً" .
لمعت عيناه فى دهاء و قال بكل كبرياء :" ارحل أنت يا مولاى الى اخر القرية بعيداً و احمل ما تستطع أن تحمله من جواهر و كنوز و ليرزقك الله عمراً مديداً".
فر الحاكم كالجبان و قال للمشعوذ بامتنان : " لا أبغى كنوزاً و لا جواهر هى ملكك كلها, ان حكمى قد انتهى , كل ما أبغيه الا يعرف أحد مكانى فأصبح فى حكم الفانى"
اما المشعوذ فابتسم و مشاعر الفرح قد رسم و خرج للأهالى الثائرين فكان أول القائلين رحل الحاكم اللعين
فرح الأهالى فغنوا و رقصوا.... ثلاثة أيام ما انتقصوا و المشعوذ محمولاً على الأعناق يهتف الناس له كمن وجد للسم ترياق
أفاق الأهالى الثائرون من نشوة الرقص و الجنون و قالوا للمشعوذ" نشكرك و نقدرك و نبجلك و لكن ماذا عسانا الان فاعلون؟"
قال المشعوذ " الى بيوتكم اذهبوا و فى أرضكم افلحوا و اتركوا لى هم الحكم فأنا معكم و حاميكم وسأولى من يصلح عليكم "
ثار الشباب المتعلمون و هتفوا قائلين : " كلا و ألف كلا , بل نحن نختار حاكمنا , انا الان قد فهمنا و علمنا أنه بعد اليوم لن يحكمنا من ليس منا "
قال قائل من الأهالى : " و من اين لنا أن نعرف كيف نختار ,اذا خٌيرنا سنحتار"
و قال اخر: " اننا لا نعرف عملاً سوى الفلاحة فى الأرض فلنترك للمشعوذ القرار فهو صاحب الاختيار"
رد الشباب و قالوا : " و لكننا لسنا أقل من غيرنا , سنختار و لن نحتار و نحن من اليوم أصحاب القرار "
هاجت الأهالى و ماجت و على الشباب المتعلمون ثارت و قالت : " اذهبوا الى دياركم أنكم لا تفقهون شيئاً , عاش المشعوذ , عاش المشعوذ "
قال الشباب الثائرون الذين أصبحوا من الأهالى محبطين : " و لكننا من صنعنا النصربأيدينا , لا ننكر أن المشعوذ حامينا و لكن لماذا نترك له مصائر الأمور ؟ لا نريد للكرة مرى أخرى أن تدور ؟ّّ!"
دفعهم الأهالى دفعاً للعودة الى البيوت و قالوا" يعيش المشعوذ و نحن نموت"
و بعد حين قبض المشعوذ على الشباب المتعلمين الثائرين فأودعهم السجون و مثل جيداً دور الحنون و استخدم شعوذته و سحره فمحى العقول و صاروا شعباً جهول لايختلفون فى شىء عن العجول
و لم يغادر الأهالى من بعدها البيوت و أصبح هتافهم الوحيد يعيش المشعوذ و نحن نموت
*****************************************************************

No comments:

Post a Comment