3/12/2013

تاريخ المكان


تاريخ المكان

لم تكن امكانياتى المادية تسمح بمجرد العشاء فى مطعم هذا الفندق ما بالك بقضاء ليلة كاملة في جناح فاخر بالفندق المطل على النيل.
اذاً فالشكر واجب لهذا المؤتمر و منظميه ...صحيح أننى لا أذكر اصلاً اسم المؤتمر ولا اسم الشركة التى نظمته و لكن كونهم وجههوا الدعوة لى للحضور  لقضاء ليلة فى الفندق شاملة كل الوجبات و المشروبات الخفيفة و الثقيلة ايضاً فهو شىء يستحقون الشكر عليه خاصة و أننى طبيب فاشل لم يدخل عيادتى الحقيرة مريض واحد منذ عدة شهور.
تحاملت على نفسى و انا أستمع الى الكلمات التى ألقاها الأطباء فى المؤتمر و حاولت أن اصطنع الاهتمام و لكن فى الحقيقة ذهنى كله كان منصباً على وجبة الغذاء التى كان يحين موعدها بعد انتهاء فاعليات اليوم الأول للمؤتمر.
الحمد لله مر الوقت و انتهى اليوم الأول للمؤتمر فتوجهت الى المطعم مع العديد من الأطباء الآخرين و حاولت الا املأ طبقى كثيراً حتى لا يظهر أصلى الحقير و نهمى للطعام و لكننى وجدت أن العديد من الأطباء المشهورين قد ملأوا أطباقهم من الجمبرى الكبير المشوى بشكل مقزز و لكننى لن أفعل مثلهم رغم أن بدلتى القديمة و حذائى البالى قد جعلانى محط أنظار العديد من الأطباء كما أننى لاحظت الفتاة التابعة للشركة المنظمة للمؤتمر تنظر لى كثيراً  ...كانت تبتسم و تضحك لكل الأطباء ما عداى فما الذى سيغريها فى طبيب نحيل فقير رث الهيئة مثلى ....حدجتنى بنظرة قاسية عندما ابتسمت لها ابتسامة ساخرة و أنا أراقب الطبيب الشهير يدون لها رقم غرفته على ورقة  فئة المائة دولار و يدسها فى يدها دون أن يلاحظ أحد .
ابتسمت هى له  باغراء و عندما لاحظت أننى قد شاهدت الموقف كاملاً نظرت لى باستياء و دست المائة دولار فى شنطتها بهدوء و كأنه جزء من مرتبها و كأننى أنا من تلقى المائة دولار!
تجاهلت الموقف بأكمله بينما انتقلت هى الى طبيب شهير آخر لم يرفع عينيه من صدرها المكتنز و ان كنت أيقنت أن الشركة المنظمة لن تدعونى لأى مؤتمرات فى المستقبل بعد موقفى من هذة الفتاة.
صعدت الى غرفتى الفسيحة و طلبت عن طريق الهاتف زجاجة كبيرة من النبيذ المعتق و بعص الأطعمة الخفيفة......خلعت ملابسى و نزلت تحت الدش ريثما يصعد عامل الفندق بالنبيذ و الطعام.

لم أقرب الخمر قط فى حياتى و لكننى قررت الليلة أن أشرب..انها الليلة الوحيدة على كل حال التى سيمكننى أن أشرب فيها فبعد ذلك لن أملك الا حق علبة بيرة على الأكثر.
فتحت الباب للعامل و أخذت منه الزجاجة و الطعام و أعطيته بقشيشأً كبيراً و سرعان ما كنت أنقض على النبيذ و الطعام فى نهم ...
بدأ تأثير النبيذ يظهر سريعاً على شخص لم يقرب الخمر مطلقاً فى حياته و سرعان ما وجدت نفسى فاقداً للوعى.

استيقظت على أصوات أبواق كثيرة و حاولت أن أفتح عيناى بصعوبة من أثر الخمرو لكن ضوء الشمس ضايقنى كثيراً ...كيف تسللت الشمس الى الغرفة؟ ما هذا لا يوجد غرفة ..أنا مستلقى على النيل مباشرة بينما أصوات أبواق قادمة من بعيد و أناس حفاة عراة الصدر بجرون فى كل مكان ..صاح أحدهم للآخرين بلغة  غريبة هى على ما أعتقد الفرعونية القديمة: " هيا ..هيا...الفرعون قادم ".
نظرت اليه فى دهشة فاقترب منى شخص عجوز قائلا: " يا ولدى..قم..ان ابواق موكب الفرعون بيبى الثانى فى الطريق و أنت تعرف أنه منذ أن أخمد جنود الفرعون ثورة الفلاحين فانه يقسم انه اذا رأى فلاحاً فسوف يقتله أو يرسله الى محاربة الحيثيين فاختبأ مع زملائك "
قمت فى دهشة و لكن سرعتى لم تكن مناسبة فسرعان ما وصل موكب الفرعون أمامه ثلة من الجنود بالزى العسكرى و الى جواره كاهن ما ان لمحنى حتى مال على فرعون همساً فقال فرعون لجنوده : " احضروه " 
قيدونى بسلاسل حديدية كبيرة و سحبونى خلف موكب الفرعون حتى وصلنا الى قصره بعد مسيرة طويلة.

دخل فرعون فجلس على عرشه و حوله الكهنة و كبير الجنود و أنا ملقى ببهو الغرفة الهائل الحجم فقال فرعون : " اى كهنة آمون ...ماذا نفعل بعبدنا هذا ؟ "

قال أحد الكهنة :" يلعب دور الفريسة و تقوم عظمتك باصطياده فى صحراء أون غداً "
لمعت عينا الفرعون فقال كاهن آخر: " بل يرسل الى الجنوب لمقاومة تمرد النوبيين"
بدا على فرعون الاعجاب بالرأى الثانى  فقام أحد الكهنة قائلا: " مولاى الفرعون ...اذا سمحت لى ..لقد وعدنى مولاى بمكافأة عن خطبتى الأخيرة للرعية فى تمجيد عظمتكم ...فهل لى بهذا الفلاح ليكون لى عبدا؟ "
بدا أن الكهنة فى طريقهم للاختلاف فحسم فرعون الأمر قائلاً : بل أمرنا نحن بقتله"
سكت الكهنة و دخل أحد حراس فرعون فأمسك رمحه و ألقاه فدخل من بطنى و خرج من ظهرى و سقطت قتيلاً.

أفقت على نسيم هواء و شخص يهز يدى قائلاً : " افق ..افق..لم يعد لدينا كثير من الوقت ..هيا لنلحق بالغافقى "
تتبعت الشاب الذى سار بمحاذاة النيل ..نفس الموقع الذى استيقظت فيه فى الزمن الفرعونى و لكن معالم البيوت تغيرت قليلاً عن المرة السابقة ووصلنا الى منزل من طابق واحد يطل علي النيل طرقه الرجل عدة طرقات بدا أنه متفق عليها فخرج مجموع من الشباب كلهم فى نفس زى الشاب تقريباً و قال أحدهم بالقبطية: " هل وصل جنود العرب ؟ "
أجابه الآخر :"بل ستنبع نحن أبو حرب الغافقى فاليوم سنحاصر منزل الفاسد " عبد الله "
أخذنا نسير من منزل الى منزل و يزداد عددنا و أخذت أحاول استراق السمع الى الأحاديث الأجانبية لفهم الموقف.
" محاصرة منزل عبد الله هى الحل ، يقال ان ثوار الكوفة و البصرة تحركوا باتجاه المدينة لعزل الخليفة عثمان " .
" و ماذا بعد؟ سنبايع علياً للخلافة أم سنستجير بالروم مرة ثالثة بعد أن هزمهم ابن العاص "
" ابن العاص مقاتل شرس و لن يسمح بعودة الروم "
" لم تكن أيام الروم أيام رخاء بل كانت أيضاً أيام شدة ..المهم أن تنخفض الجبايات على المحاصيل الزراعية ..لم يبق لنا نحن الفلاحون شيئاً لسد أقوات أولادنا"
استمر سيرنا بمحاذة النيل و أصبح عددنا عدة الآف و قد بان ان هناك تبياناً فى الآاراء بين الثوار المصريين فهناك من يرغب فى عودة الروم و هناك من يرغب فى تولية علي ابن عم رسول الله للخلافة و هؤلاء بدا من كلامهم أنهم يعتنقون الاسلام بينما تبقى قليل من الثوار يرون أن لابد من التخلص من العرب و من الروم على السواء.

وصلنا الى منزل عامل مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح فوجدناه محاصراً بعدد من الثوار و على الجانب الآخر كان هناك عدد من قوات عبد الله تحمى منزله و انطلقت الهتافات التى تطالب عبد الله بالرحيل و أخرى تشكو من كثرة الجبايات و سرعان ما هجم حرس عبد الله على الثوار و اقترب مني أحد الحراس فغمد سيفه فى بطنى ليخرج من ظهرى و سقطت قتيلاً
شعرت بألم شديد فى بطنى و انا أفيق  من المحتمل أن يكون من أثر الطعنة التى تلقيتها من أحد جنود عبد الله بن سعد بن أبى السرح و أفقت على صوت أحد الرجال يهتف بالعربية : " انهم قادمون...قادمون .."
سحبتنى فتاة جميلة من يدى و جرينا بمحاذاة النيل الذى بقى كما كان فى العصور السابقة و لكن المنازل أمامه تغيرت معالمها كثيراً ..انعطفت الفتاة يساراً فانعطفت معها و سرنا طويلاً داخل منعطفات و أزقة ضيقة و صوت طلقات مدافع يتردد فى الخلفية بلا توقف حتى وصلنا الى منزل جميل المعمار فطرقت الفتاة بشدة الباب حتى انفتح كاشفاً عن العديد من الجرحى مطروحين أرضاً و عدة فتيات يحاولن اسعافهم  بينما تحركت سيدة فى همة و نشاط بدا انها صاحبة المنزل للاشراف على تجهيز طعام للرجال والسيدات الكثيرين الموجودين بالمنزل.
قالت أحد الفتيات: " الجنرال الفرنسى مصمم على القضاء على الثورة باى ثمن ..حتى لو قتل المصريين كلهم يا زينب خاتون "
قالت زينب :" سنقاتل حتى آخر رجل و امرأة و لن نترك مصر للفرنسيين "
همس أحد الرجال الجرحى لزميل له : " ليت أيام المماليك تعود من جديد" 
قال له صاحبه : " صه! أجننت يا فتى ؟ و الله ان ايام المماليك اسوأ الآف المرات.."
أجابه صاحبه: " عليك أنت بالسكوت اذا..الا تعرف ان صاحبة البيت تكن للمماليك كل الحب و الاحترام "
قال له الثانى:" زينب مصرية و لا علاقة لها بالمماليك ..هى فقط كانت خادمة أحدهم ثم تزوجت  رجلاً تركياً و لم تكن ابداً الا مصرية بنت مصريين "
قالت زينب: " سيرحل الفرنسيون حتماً ..لا قبل لهم بمواجهة الغضب المصرى ...سينهض أبناء قاهرة المعز بالكامل للتصدى للفرنسيس و سارى عسكرهم ...المهم هو أن يتولى المصريون أمر نفسهم بعد ذلك و لا يُسلموا أنفسهم لأحد مرة أخرى"
فى هذة الأثناء قامت قوة من الفرنسيس باقتحام المنزل و أطلقوا طلقات من بنادقهم أصابت أحدهم بطنى فدخلت فيها و خرجت من ظهرى و سقطت أنا قتيلاً مرة أخرى


أفقت سريعاً هذة المرة على أصوات قتال شديد و كلام ما بين العربية و التركية و اقتادنى أحد الجنود الذى يتحدث التركية الى مجموعة من زملاؤه و قال بالتركية: " فلاح مصرى آخر"..اقترب منى شخص لا يبدو أنه عسكرى و أخذ يتفحص جسدى بعناية و ضربات قلبى و أمرنى بفتح فمى ثم قال بالتركية للجنود: " سليم "
فجأة وجدت من يقتادنى فى عربة تجرها الخيول فى نفس المكان الذى اعتدت أن أفيق فيه بمحاذاة نهر النيل و لكن المسير طال  و انا معى الكثير من الفلاحين المصريين البساطاء الهيئة ..بعضهم ثيابه ممزقة و تبدو عليه أمارات الفقر الشديد  و استمر المسير عدة أيام و ليالى قبل أن ينتهى فى قرية صغيرة بجوار النيل فى مبنى كبير بالجنوب يبدو انها فى مديرية أسوان ..المبنى له بوابة حديدية ضخمة للغاية قام بفتحها بعض الجنود الأتراك و دخلت العربة الكبيرة التى تجرها الخيول الى ساحة المبنى و بعدها تم تسكيننا فى غرف جماعية ما يقرب من المائة فلاح بالغرفة الواحدة و هو ما أدى الى وفاة فلاحين كثيرين من الاختناق.

قال فلاح لآخر جاثم فوق صدره: " أنت تجيد التركية يا عبد المجيد ..ماذا هم بنا فاعلون؟"
أجاب عبد المجيد : " قرر الباشا انشاء جيش من الجنود المصريين ...هذا ما سمعته من الجنود أثناء الطريق من مديرية القاهرة الى هنا" 
بدا على الأول الغم و الضيق و قال: " و ما لنا ومال الحروب؟ نحن قوم فلاحون ..كل همنا فى الدنيا الأرض و زراعتها و لا طاقة لنا بالحروب"
مرت الأيام و الأتراك يعلموننا فنون القتال و الحروب ثم جاء أحد القواد الأتراك ليعلن ان كتيبتنا تم اختيارها لمحاربة جيوش الوهابيين فى الحجاز فى الحملة التى ستنتطلق غداً بقيادة نجل الوالى ابراهيم باشا

وصلنا الحجاز بعد عدة أيام و خرجت جيوش الوهابيين أتباع محمد عبد الوهاب لملاقاتنا و عندها اقترب منى جندى مشعث اللحية و صاح الله أكبر و هو يدخل سيفه فى بطنى و يخرجه منظهرى و كالعادة سقطت قتيلاً

أفقت ليلاً هذة المرة للمرة الأولى و كانت أضواء الجانب الآخر من النيل تظهر..نحن اذا فى عصر الكهرباء ...
تلفت حولى فلم أجد أحد ..سرت بمحاذاة النيل قليلاً و أخذت اتأمل العمارات الجميلة المبنية أمامه ....نحن اذا فى عصر حديث نسبياً هذة المرة و فجأة اصطدم  بى شابان يجريان و يحملان كومة من الأوراق و أمرانى أن أتبعهما.
دار الحوار بين الاثنين و نحن نسير معاً بالخطوة السريعة و قال الأول بالعامية المصرية : " وزارة محمد توفيق لازم تمشى ...و الدستور الجديد لازم يتلغى "
رد الآخر: " المشكلة مش فى دول..دول كلهم خدامين الانجليز ...حتى السرايا نفسها خدامين الانجليز ...المشكلة فى الانجليز ..لازم يخرجوا "
وصلنا الى عمارة حديثة – بتوقيت هذا الزمان- قديمة – بتوقيت زمانى الأصلى-  و دلفنا الى الشقة الأرضية بها و التى كان ملحق بها قبو هبطناه سريعاً لنجد مجموعة من الشباب جالسين و أمامهم مطبعة يقومون فيها بطباعة منشورات و جريدة صغيرة.

التقطت أحد أعداد الجريدة  التى كان اسمها الصرخة و نظرت للتاريخ  12 نوفمبر 1935...أنا اذا أعيش أحداث ثورة 1935 او الثورة المنسية كما يقولون .
دار الحديث بين الشباب حول مظاهرات الغد التى ستخرج من جامعة فؤاد فى عيد الجهاد الوطنى الموافق 13 نوفمبر و تم تقسيم الأدوار ما بين  توزيع المنشورات و قيادة الهتافات التى تطالب بعودة دستور 1923 و تطالب بريطانيا بأن تكف أيديها عن مصر "
قضيت ليلتى مع الشباب فى هذا القبو و خرجت معهم فى الغد الى الجامعة التى انتفضت كلها بمظاهرات رهيبة تهتف ذد الملك و السير هور ( وزير الخارجية البريطانى ) و ضد اسماعيل صدقى جلاد الشعب و تلعن دستور 1930
خارج أسوار الجامعة التحمت مظاهرات الطلاب مع الجنود الانجليز و فى رحى المعركة اقترب منى جندى بريطانى و صوب مسدسه الى بطنى و أطلق طلقة نفذت من بطنى و خرجت من ظهرى فسقط ميتاً

أفقت بعدها على أصوات تتحدث و وجدت صعوبة شديدة فى أن أفتح عيني ..بعد قليل فتحت عيني لأجد نفسى ملقى فى نفس الوضع أمام النيل و لكن فى حجرتى بالفندق و أمامى من الزجاج الكبير للغرفة يبدو نهر النيل عريضاً و يقف أمامى طبيب و عدة أشخاص من أمن الفندق و قال لى الطبيب : " لقد أسرفت كثيراً فى الشراب " و أضاف أحد الأشخاص العاملين بالفندق الذى بدا ذو منصب ادارى: " و فى الأكل ايضاً يا دكتور "

بدا على الأخير الاحتقار الشديد لى و لكنه ايضاً بدا مطمئناً لأننى بخير أخيراً ..نظرت فى ساعتى فوجدت أن أربعة و عشرون ساعة مضت و أن اليوم الثانى و الأخير للمؤتمر قد انتهى.

و سيظل السؤال قائماً هل كل ما عشته كان حقيقياً و خصوصاً أن كل الشخصيات التاريخية بل و الأحداث حقيقية أم انه النبيذ المعتق ؟

سؤال سيظل بلا اجابة على الأقل فى الوقت الحالى .