9/18/2019

هل رفع الله عيسى بن مريم إليه حيا؟

من المسلم به في المعتقد الإسلامي المعاصر ان المسيح عيسى بن مريم لم يمت ولكن رفعه الله إليه بعد أن ألقى الشبه على آخر -يقال في المرويات الإسلامية أنه يهوذا الخائن -

و لكن هل هذا حقا ما جاء به القرآن الكريم في الآيات التي تحدثت عن المسيح ؟

فلنلق نظرة ولنحكم:


١- الاية الرئيسية التي استند إليها المفسرون لاستنتاج أن المسيح لم يمت هي " و ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " والحقيقة أن المعنى المقصود بشبه لهم هو ليس المسيح ولكن حقيقة القتل والصلب و بالمناسبة الصلب لغويا يعني الموت على الصليب هي ما شبه لهم وليس التعليق على الصليب.


باستكمال الاية نجد أن الجملة الأخيرة هي:" وما قتلوه يقينا" أي من المؤكد أنهم لم يقتلوه رغم تعليقه على الصليب



٢- العديد المواضع الأخرى التي ذكر فيها المسيح تم ذكر أنه توفى بوضوح:

" إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " والحقيقة أن اجتهاد المفسرين باعتبار وجود أسلوب تقديم و تأخير وأن المقصود أن الرفع سابق على الوفاة هو اجتهاد لا يدخل العقل ولا يتبع قواعد المنطق


"والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا "


لا حاجة للتفسير ولا للحديث عن تقديم وتأخير هنا مرة أخرى فالدورة الطبيعية هنا هي ولادة موت بعث.

"فلما توفيتني كنت انت الرقيب عليهم " الجملة هنا على لسان المسيح في سورة النساء ولا تحتاج الي تعقيب أو توضيح

٣-تبين مما سبق أن وفاة عيسى قد حدثت بالفعل إذا فما سر الخلاف ؟

في ضوء الآيات السابقة وفي ضوء التراث المسيحي المنتشر في شبه الجزيرة العربية وقت البعثة الإسلامية كانت الرواية كالآتي:


تم تعليق المسيح على الصليب...لم يمت لأنه شبه لهم انه قد قتل ولكنه في الحقيقة لم يمت وتم دفنه حيا ثم قام من القبر ونشأت أسطورة القيامة المسيحية بينما هو في الأصل لم يمت ومات المسيح لاحقا ورفعه الله إليه بعد الوفاة كما هو مذكور في القرآن الكريم.
وفي ظني أن المفسرين الذين تناولوا آيات المسيح في القرآن عبد وفاة الرسول بعشرات السنين قد اجتهدوا وجانبهم الصواب ولهم أجر.


و ها هو ذا اجتهادي فإن كنت مخطئا يكفيني أجر واحد والله تعالى عز وجل هو أعلى وأعلم.

11/01/2017

أبانوب / حمزة - قصة قصيرة



اقترب ببطء من المكان المظلم و حاول اختراق الحشود الضخمة من المواطنين المتجمعين حول الحادث
لا جديد ..هو حادث اخر في حي من أحياء العاصمة القديمة ...متطرف دينيا يطعن متطرف دينيا اخر بعد نقاش حول الشروط الصحيحة للنقاب استند أحدهم أن العينين يمكن أن يظهرا في النقاب الصحيح بينما قال القاتل أن العينين فتنة و بالتالي لا يمكن أن يظهرا و اتهم الأول بأنه ديوث و لا دين له ولا عرض و قام بطعنه عدة مرات بعد ترديد الشهادتين.

كان الجميع في انتظار وصول الشرطة المحلية و هو جهاز جديد تم استحداثه منذ أعوام عقب الثورة الإسلامية الثانية و  جميع العاملين به من المناطق الشعبية و يقع بمثابة حلقة وصل بين الشرطة العادية و الجماهير الغفيرة التي تسكن خارج العاصمة الجديدة و قد انشأ هذا الجهاز بعد تكرار الاعتداءات من الجماهير على رجال الشرطة و خصوصا بعد فتاوى الشيوخ المقيمين بالخارج بتكفير كل من يعمل في جهاز الدولة التي لا تطبق شرع الله .

تخطى الجموع و اتجه الي منزله و أشعل شمعة فالتيار الكهربي كان منقطع بعد أن أصبح نصيب كل منطقة من الكهرباء 3 ساعات يوميا .
كان  عائدا من المسجد بعد  أداء السنة و الفروض حتى لا يتهمه أحد من أهالي الحي بترك الصلاة و خصوصا بعد مقتل شاب متطرف على يد متطرف اخر لأنه ترك صلاة السنة بعد الظهر و خرج مباشرة من المسجد  الي داره التي لا تبعد كثيرا

منذ أكثر من عشرين عام قامت الحكومة باعلانها توقف الدعم عن الكهرباء و البنزين و المواصلات و الخبز ف ارتفعت الأسعار بشكل جنوني مما أدى الي اشتعال ثورة وصفت لاحقا بأنها إسلامية تم اخمادها بعد عدة أسابيع مخلفة الاف الضحايا و عندما قامت الثورة الثانية ( التي وصفت لاحقا بأنها إسلامية أيضا )  لم تتدخل القوات الحكومية في العاصمة القديمة على الاطلاق بل انتظرت حتى اقترب المتظاهرون من حدود العاصمة الجديدة و قاموا باطلاق النيران و بعدها تم – بشكل غير رسمي – تقسيم الحدود بين العاصمتين القديمة و الجديدة.

لم تتدخل الدولة لحماية الأقباط بعد اعلان الامارة الإسلامية في العاصمة القديمة مما دفع الأٌقباط الي محاولات النجاة بشكل فردي مخلفين أكبر عملية إبادة عرقية في التاريخ الحديث
العاصمة الجديدة لم تقبل فقراء الأقباط الذين حصل بعض منهم على لجوء لدول غربية بينما اضطر الأغلبية الي اشهار اسلامهم و العودة الي ديارهم في العاصمة القديمة و كان أبو ( أبانوب ) منهم .
شهور قليلة عقب العودة و تبديل الدين توفى ( ماهر سيد جرجس ) مخلفا أرملة تدعى مريم أو عائشة بعد أن بدلت اسمها و ارتدت النقاب و ابنا وحيدا هو أبانوب الذي تحول الي حمزة و انخرط في الحياة في العاصمة الإسلامية .
انخرط حمزة في صفوف الكتاتيب الإسلامية التي عاودت و بقوة بعد اغلاق جميع المدارس المدعوة علمانية و أتم تعليمه بها ليحصل على وظيفة ( غفير ) و هي وظائف خصصت لمن كان من أصل مسيحي ( نصراني ) باللغة الحديثة و تم تخصيص مرتب بالعملة الجديدة( دينار ) له.
كان يحيا وحيدا في دار أبيه القديمة و لذا لم يكن بحاجة لكثير من المال. فقط ما يكفي أكله و شربه و فواتير الكهرباء ( التي تأتي 3 ساعات يوميا )
كان قد حصل اليوم و بشكل غير مباشر على مجموعة من الأفلام من العاصمة الجديدة ..نعم ..هؤلاء الكفار الذين يعيشون في انحلال ديني و أخلاقي ..
هل كان أبانوب/ حمزة مسلما حقا ؟؟ لا يدري .كل ما يعلمه أن له أجداد كفرة و أن الله أنعم عليه بالإسلام و أن خارج العاصمة القديمة ديار كفر يعد الجميع العدة لسحقها منذ أعوام و لا يبدو أن هذا سيحدث
حمزة يواظب على الصلاة و الصيام للاستعداد لمحاربة الكفار و دروس الشيخ مصعب عبد الجبار تقول أن أول جهاد الكفار هو جهاد النفس بالصيام و الصلاة.

حمزة لا يقرب النساء طبعا و لا يمارس العادة السرية – بارادته – حيث أنه أحيانا يضبط فراشه متسخ في الصباح بعد حلم جميل
حمزة ينتظر الحرب على الكفار لشغل وقته ..فعمله ممل و حياته مملة و لا جديد فيها ..كان قد سمع درس الشيخ مصعب الذي يتحدث عن الجهاد و السبايا عدة مرات و أخذ خياله يرسم صورا أجمل مما قاله الشيخ عن أجساد النساء في أراضي الكفار و عن جواز
الاستمتاع بنكاحهم كأسرى

عادت الكهرباء ف أسرع حمزة اللي مشغل الفيديو الذي عاد ينشتر مرة أخرى كما كان في ثمانينات القرن الماضي أي منذ مائة عام .
سريعا قام حمزة بتشغيل الفيلم ..كانت هناك امرأة في بدايته تضع غطاءا للرأس و  تتحدث بالعامية المحلية القديمة ( لغة الكفار كما يقول الشيخ مصعب في درسه المعنون " انا انزلناه قرانا عربيا " )  
كان وجهها مكشوفا و جزءا من رقبتها , لم ير في حياته وجه امراءة فلم يتحمل ..خرج منه سائل الحياة بقوة بعد عدة مداعبات بسيطة لعضوه
استلقى على ظهره متعبا  و قد نقلت الكاميرا مباني نظيفة و أناس يتحدثون في مرح  في دار سينما مفتوحة تعرض فيلما بلغة أجنبية ( كانت عقوبة تعلم أو تحدث اللغات الأجنبية هي عقوبة الافساد في الأرض و هي قطع الأيدي و الأرجل من خلاف )

و بعد العرض قام البعض فأقاموا الصلاة و صلوا جماعة ..أوقف حمزة جهاز العرض ..

هؤلاء مسلمون ؟ لا يمكن ؟ الكفار مسلمون ؟ صحيح أن النساء لا يغطون وجوههم و أن هناك منهم أيضا كاسيات عاريات بلا غطاء للرأس أساسا  و لكن منذ متى كان الكفار يصلون .
استغرق حمزة في تفكيره و تأمله و بدى له أن كل ما تعلمه من شيخه الأثير مصعب محل شك و مراجعة
فضل استكمال الفيديو قبل الاستغراق في التفكير .
في هذه اللحظة اقتحم المنزل عدة رجال و قال أحدهم ( الكافر ابن الكافر يمارس المعاصي في منزله  ثم يتساءل الجميع لم غضب الله علينا ؟؟ من أمثالك يا عدو الله ) و قال اخر ( انما جزاء من يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا )
رد ثالث( ان الحكم الا لله و الله يا عمير لقد نطقت بحكم الله..اقتلوه )

قام الجميع بالتهافت عليه و تقطيعه اربا و في هذه الأثناء انسل أحدهم الي جهاز الفيديو و سحب الشريط ووضعه في جيب جلبابه و خرج بهدوء من المنزل.










10/22/2014

انت ملحد ؟!! ممكن أنام مع أختك ؟

     من كام يوم كنت باتفرج على التليفزيون و لقيت اعلان عن برنامج من البرامج اللي طالعة موضة جديد بتاعت استضافة اتنين ملحدين و قدامهم شيخ و قسيس يقعدوا يشتموا فيهم و يمرمطوا فيهم و يقنعوهم بان الكتب السماوية سماوية بايات من الكتب دي نفسها! 
ما علينا ..ده مش موضوعنا دلوقتي و لا الكلام ده هدفه اصلا المناقشة في قضية الالحاد أو الدين علشان الموضوع ما ينحرفش ..

الاعلان كان ماشي كما هو متوقع الشيخ بيصرخ في وش العيال و فجأة سمعت جملة غريبة جداً من الشيخ : 

 " أنت لا تؤمن بالأديان ؟ ؟تسمحلي أضاجع أختك ؟؟ " 
زي ما قلت مش موضوعي هو الأديان أو الالحاد انما تعالو نقف شوية عند جملة الشيخ دي لأن فيها كلام  كتير اوي لازم نفهمه ...

اولاً : الشيخ لا يفقه شئ عن أسلوب المناظرات أو المناقشات أو الحوارات لانه حول القضية من ناس لا تؤمن بوجود اله و رسالات سماوية بينما هو بيؤمن و بدل ما يحاول يقنعهم و يقنع المستمعين بوجهة نظره و بقوة حجته قلب الموضوع في اتجاه تاني خالص و هو الجنس 

ثانياً: الجنس هو أول شئ فضيلة الشيخ بيفكر فيه لأنه أول لما تخيل العالم بلا أديان تخيل الجنس ..اول ما تحرر من قيوده فكر في الجنس ...بدل ما يفكر في الشمس و القمر و الليل و النهار و الموت و الرياح و المطر ....ساب كل ده و فكر في الجنس و ده جزء من التشويه الموجود في عقول الناس دي 

ثالثاً : نظرة الشيخ للمرأة واضحة جداً في الجملة دي فهو مش شايفها شخص ليه ارادة حرة اصلاً ..هو شايف انها تبع الولد و حاجة بتاعته فكأنه لو سأله تسمحلي أنام معاها و هو وافق خلاص حينفذ بدون الرجوع للست لأنها مالهاش رأي و مالهاش كلمة و مش بس كده ده شايفها ملهاش لازمة غير الجنس ....فهي مجرد أداة لتنفيذ الجنس و تلاقي الشيخ ده بيخطب في تلاميذه و يقولهم :" الاسلام كرم المرأة "..طيب يا مولانا الاسلام كرم المرأة و انت اهنتها يا عم !! 

المؤكد ان هذا النوع من البرامج طالما بيدار بهذة الطريقة فنتيجته الوحيدة هي زيادة عدد الملحدين و اللا دينيين و خصوصاً في ظل عصر الحريات و الأفكار اللي ليها أجنحة فعلاً ( الانترنت ) و محدش حيقدر يمنعها توصل للناس زي ما قال نور الشريف في دور ابن رشد في فيلم المصير و على فكرة احنا اخر جيل كان بيتقاله  " هو كده  " بيسكت و مش بيرد ...
الجيل الجديد كل أسئلته لازم تتجاوب مفيش حاجة اسمها هو كده ..وحيفضل يسأل و يفكر و أفكاره حتبقى أكثر حرية و انطلاقاً فبلاش بقلى أسلوب هو كده و اسمع الكلام و عيب احنا نعرف أكتر منك و احنا على حق و انت على الباطل ...

يسقط يسقط حكم رجال الدين 

3/12/2013

تاريخ المكان


تاريخ المكان

لم تكن امكانياتى المادية تسمح بمجرد العشاء فى مطعم هذا الفندق ما بالك بقضاء ليلة كاملة في جناح فاخر بالفندق المطل على النيل.
اذاً فالشكر واجب لهذا المؤتمر و منظميه ...صحيح أننى لا أذكر اصلاً اسم المؤتمر ولا اسم الشركة التى نظمته و لكن كونهم وجههوا الدعوة لى للحضور  لقضاء ليلة فى الفندق شاملة كل الوجبات و المشروبات الخفيفة و الثقيلة ايضاً فهو شىء يستحقون الشكر عليه خاصة و أننى طبيب فاشل لم يدخل عيادتى الحقيرة مريض واحد منذ عدة شهور.
تحاملت على نفسى و انا أستمع الى الكلمات التى ألقاها الأطباء فى المؤتمر و حاولت أن اصطنع الاهتمام و لكن فى الحقيقة ذهنى كله كان منصباً على وجبة الغذاء التى كان يحين موعدها بعد انتهاء فاعليات اليوم الأول للمؤتمر.
الحمد لله مر الوقت و انتهى اليوم الأول للمؤتمر فتوجهت الى المطعم مع العديد من الأطباء الآخرين و حاولت الا املأ طبقى كثيراً حتى لا يظهر أصلى الحقير و نهمى للطعام و لكننى وجدت أن العديد من الأطباء المشهورين قد ملأوا أطباقهم من الجمبرى الكبير المشوى بشكل مقزز و لكننى لن أفعل مثلهم رغم أن بدلتى القديمة و حذائى البالى قد جعلانى محط أنظار العديد من الأطباء كما أننى لاحظت الفتاة التابعة للشركة المنظمة للمؤتمر تنظر لى كثيراً  ...كانت تبتسم و تضحك لكل الأطباء ما عداى فما الذى سيغريها فى طبيب نحيل فقير رث الهيئة مثلى ....حدجتنى بنظرة قاسية عندما ابتسمت لها ابتسامة ساخرة و أنا أراقب الطبيب الشهير يدون لها رقم غرفته على ورقة  فئة المائة دولار و يدسها فى يدها دون أن يلاحظ أحد .
ابتسمت هى له  باغراء و عندما لاحظت أننى قد شاهدت الموقف كاملاً نظرت لى باستياء و دست المائة دولار فى شنطتها بهدوء و كأنه جزء من مرتبها و كأننى أنا من تلقى المائة دولار!
تجاهلت الموقف بأكمله بينما انتقلت هى الى طبيب شهير آخر لم يرفع عينيه من صدرها المكتنز و ان كنت أيقنت أن الشركة المنظمة لن تدعونى لأى مؤتمرات فى المستقبل بعد موقفى من هذة الفتاة.
صعدت الى غرفتى الفسيحة و طلبت عن طريق الهاتف زجاجة كبيرة من النبيذ المعتق و بعص الأطعمة الخفيفة......خلعت ملابسى و نزلت تحت الدش ريثما يصعد عامل الفندق بالنبيذ و الطعام.

لم أقرب الخمر قط فى حياتى و لكننى قررت الليلة أن أشرب..انها الليلة الوحيدة على كل حال التى سيمكننى أن أشرب فيها فبعد ذلك لن أملك الا حق علبة بيرة على الأكثر.
فتحت الباب للعامل و أخذت منه الزجاجة و الطعام و أعطيته بقشيشأً كبيراً و سرعان ما كنت أنقض على النبيذ و الطعام فى نهم ...
بدأ تأثير النبيذ يظهر سريعاً على شخص لم يقرب الخمر مطلقاً فى حياته و سرعان ما وجدت نفسى فاقداً للوعى.

استيقظت على أصوات أبواق كثيرة و حاولت أن أفتح عيناى بصعوبة من أثر الخمرو لكن ضوء الشمس ضايقنى كثيراً ...كيف تسللت الشمس الى الغرفة؟ ما هذا لا يوجد غرفة ..أنا مستلقى على النيل مباشرة بينما أصوات أبواق قادمة من بعيد و أناس حفاة عراة الصدر بجرون فى كل مكان ..صاح أحدهم للآخرين بلغة  غريبة هى على ما أعتقد الفرعونية القديمة: " هيا ..هيا...الفرعون قادم ".
نظرت اليه فى دهشة فاقترب منى شخص عجوز قائلا: " يا ولدى..قم..ان ابواق موكب الفرعون بيبى الثانى فى الطريق و أنت تعرف أنه منذ أن أخمد جنود الفرعون ثورة الفلاحين فانه يقسم انه اذا رأى فلاحاً فسوف يقتله أو يرسله الى محاربة الحيثيين فاختبأ مع زملائك "
قمت فى دهشة و لكن سرعتى لم تكن مناسبة فسرعان ما وصل موكب الفرعون أمامه ثلة من الجنود بالزى العسكرى و الى جواره كاهن ما ان لمحنى حتى مال على فرعون همساً فقال فرعون لجنوده : " احضروه " 
قيدونى بسلاسل حديدية كبيرة و سحبونى خلف موكب الفرعون حتى وصلنا الى قصره بعد مسيرة طويلة.

دخل فرعون فجلس على عرشه و حوله الكهنة و كبير الجنود و أنا ملقى ببهو الغرفة الهائل الحجم فقال فرعون : " اى كهنة آمون ...ماذا نفعل بعبدنا هذا ؟ "

قال أحد الكهنة :" يلعب دور الفريسة و تقوم عظمتك باصطياده فى صحراء أون غداً "
لمعت عينا الفرعون فقال كاهن آخر: " بل يرسل الى الجنوب لمقاومة تمرد النوبيين"
بدا على فرعون الاعجاب بالرأى الثانى  فقام أحد الكهنة قائلا: " مولاى الفرعون ...اذا سمحت لى ..لقد وعدنى مولاى بمكافأة عن خطبتى الأخيرة للرعية فى تمجيد عظمتكم ...فهل لى بهذا الفلاح ليكون لى عبدا؟ "
بدا أن الكهنة فى طريقهم للاختلاف فحسم فرعون الأمر قائلاً : بل أمرنا نحن بقتله"
سكت الكهنة و دخل أحد حراس فرعون فأمسك رمحه و ألقاه فدخل من بطنى و خرج من ظهرى و سقطت قتيلاً.

أفقت على نسيم هواء و شخص يهز يدى قائلاً : " افق ..افق..لم يعد لدينا كثير من الوقت ..هيا لنلحق بالغافقى "
تتبعت الشاب الذى سار بمحاذاة النيل ..نفس الموقع الذى استيقظت فيه فى الزمن الفرعونى و لكن معالم البيوت تغيرت قليلاً عن المرة السابقة ووصلنا الى منزل من طابق واحد يطل علي النيل طرقه الرجل عدة طرقات بدا أنه متفق عليها فخرج مجموع من الشباب كلهم فى نفس زى الشاب تقريباً و قال أحدهم بالقبطية: " هل وصل جنود العرب ؟ "
أجابه الآخر :"بل ستنبع نحن أبو حرب الغافقى فاليوم سنحاصر منزل الفاسد " عبد الله "
أخذنا نسير من منزل الى منزل و يزداد عددنا و أخذت أحاول استراق السمع الى الأحاديث الأجانبية لفهم الموقف.
" محاصرة منزل عبد الله هى الحل ، يقال ان ثوار الكوفة و البصرة تحركوا باتجاه المدينة لعزل الخليفة عثمان " .
" و ماذا بعد؟ سنبايع علياً للخلافة أم سنستجير بالروم مرة ثالثة بعد أن هزمهم ابن العاص "
" ابن العاص مقاتل شرس و لن يسمح بعودة الروم "
" لم تكن أيام الروم أيام رخاء بل كانت أيضاً أيام شدة ..المهم أن تنخفض الجبايات على المحاصيل الزراعية ..لم يبق لنا نحن الفلاحون شيئاً لسد أقوات أولادنا"
استمر سيرنا بمحاذة النيل و أصبح عددنا عدة الآف و قد بان ان هناك تبياناً فى الآاراء بين الثوار المصريين فهناك من يرغب فى عودة الروم و هناك من يرغب فى تولية علي ابن عم رسول الله للخلافة و هؤلاء بدا من كلامهم أنهم يعتنقون الاسلام بينما تبقى قليل من الثوار يرون أن لابد من التخلص من العرب و من الروم على السواء.

وصلنا الى منزل عامل مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح فوجدناه محاصراً بعدد من الثوار و على الجانب الآخر كان هناك عدد من قوات عبد الله تحمى منزله و انطلقت الهتافات التى تطالب عبد الله بالرحيل و أخرى تشكو من كثرة الجبايات و سرعان ما هجم حرس عبد الله على الثوار و اقترب مني أحد الحراس فغمد سيفه فى بطنى ليخرج من ظهرى و سقطت قتيلاً
شعرت بألم شديد فى بطنى و انا أفيق  من المحتمل أن يكون من أثر الطعنة التى تلقيتها من أحد جنود عبد الله بن سعد بن أبى السرح و أفقت على صوت أحد الرجال يهتف بالعربية : " انهم قادمون...قادمون .."
سحبتنى فتاة جميلة من يدى و جرينا بمحاذاة النيل الذى بقى كما كان فى العصور السابقة و لكن المنازل أمامه تغيرت معالمها كثيراً ..انعطفت الفتاة يساراً فانعطفت معها و سرنا طويلاً داخل منعطفات و أزقة ضيقة و صوت طلقات مدافع يتردد فى الخلفية بلا توقف حتى وصلنا الى منزل جميل المعمار فطرقت الفتاة بشدة الباب حتى انفتح كاشفاً عن العديد من الجرحى مطروحين أرضاً و عدة فتيات يحاولن اسعافهم  بينما تحركت سيدة فى همة و نشاط بدا انها صاحبة المنزل للاشراف على تجهيز طعام للرجال والسيدات الكثيرين الموجودين بالمنزل.
قالت أحد الفتيات: " الجنرال الفرنسى مصمم على القضاء على الثورة باى ثمن ..حتى لو قتل المصريين كلهم يا زينب خاتون "
قالت زينب :" سنقاتل حتى آخر رجل و امرأة و لن نترك مصر للفرنسيين "
همس أحد الرجال الجرحى لزميل له : " ليت أيام المماليك تعود من جديد" 
قال له صاحبه : " صه! أجننت يا فتى ؟ و الله ان ايام المماليك اسوأ الآف المرات.."
أجابه صاحبه: " عليك أنت بالسكوت اذا..الا تعرف ان صاحبة البيت تكن للمماليك كل الحب و الاحترام "
قال له الثانى:" زينب مصرية و لا علاقة لها بالمماليك ..هى فقط كانت خادمة أحدهم ثم تزوجت  رجلاً تركياً و لم تكن ابداً الا مصرية بنت مصريين "
قالت زينب: " سيرحل الفرنسيون حتماً ..لا قبل لهم بمواجهة الغضب المصرى ...سينهض أبناء قاهرة المعز بالكامل للتصدى للفرنسيس و سارى عسكرهم ...المهم هو أن يتولى المصريون أمر نفسهم بعد ذلك و لا يُسلموا أنفسهم لأحد مرة أخرى"
فى هذة الأثناء قامت قوة من الفرنسيس باقتحام المنزل و أطلقوا طلقات من بنادقهم أصابت أحدهم بطنى فدخلت فيها و خرجت من ظهرى و سقطت أنا قتيلاً مرة أخرى


أفقت سريعاً هذة المرة على أصوات قتال شديد و كلام ما بين العربية و التركية و اقتادنى أحد الجنود الذى يتحدث التركية الى مجموعة من زملاؤه و قال بالتركية: " فلاح مصرى آخر"..اقترب منى شخص لا يبدو أنه عسكرى و أخذ يتفحص جسدى بعناية و ضربات قلبى و أمرنى بفتح فمى ثم قال بالتركية للجنود: " سليم "
فجأة وجدت من يقتادنى فى عربة تجرها الخيول فى نفس المكان الذى اعتدت أن أفيق فيه بمحاذاة نهر النيل و لكن المسير طال  و انا معى الكثير من الفلاحين المصريين البساطاء الهيئة ..بعضهم ثيابه ممزقة و تبدو عليه أمارات الفقر الشديد  و استمر المسير عدة أيام و ليالى قبل أن ينتهى فى قرية صغيرة بجوار النيل فى مبنى كبير بالجنوب يبدو انها فى مديرية أسوان ..المبنى له بوابة حديدية ضخمة للغاية قام بفتحها بعض الجنود الأتراك و دخلت العربة الكبيرة التى تجرها الخيول الى ساحة المبنى و بعدها تم تسكيننا فى غرف جماعية ما يقرب من المائة فلاح بالغرفة الواحدة و هو ما أدى الى وفاة فلاحين كثيرين من الاختناق.

قال فلاح لآخر جاثم فوق صدره: " أنت تجيد التركية يا عبد المجيد ..ماذا هم بنا فاعلون؟"
أجاب عبد المجيد : " قرر الباشا انشاء جيش من الجنود المصريين ...هذا ما سمعته من الجنود أثناء الطريق من مديرية القاهرة الى هنا" 
بدا على الأول الغم و الضيق و قال: " و ما لنا ومال الحروب؟ نحن قوم فلاحون ..كل همنا فى الدنيا الأرض و زراعتها و لا طاقة لنا بالحروب"
مرت الأيام و الأتراك يعلموننا فنون القتال و الحروب ثم جاء أحد القواد الأتراك ليعلن ان كتيبتنا تم اختيارها لمحاربة جيوش الوهابيين فى الحجاز فى الحملة التى ستنتطلق غداً بقيادة نجل الوالى ابراهيم باشا

وصلنا الحجاز بعد عدة أيام و خرجت جيوش الوهابيين أتباع محمد عبد الوهاب لملاقاتنا و عندها اقترب منى جندى مشعث اللحية و صاح الله أكبر و هو يدخل سيفه فى بطنى و يخرجه منظهرى و كالعادة سقطت قتيلاً

أفقت ليلاً هذة المرة للمرة الأولى و كانت أضواء الجانب الآخر من النيل تظهر..نحن اذا فى عصر الكهرباء ...
تلفت حولى فلم أجد أحد ..سرت بمحاذاة النيل قليلاً و أخذت اتأمل العمارات الجميلة المبنية أمامه ....نحن اذا فى عصر حديث نسبياً هذة المرة و فجأة اصطدم  بى شابان يجريان و يحملان كومة من الأوراق و أمرانى أن أتبعهما.
دار الحوار بين الاثنين و نحن نسير معاً بالخطوة السريعة و قال الأول بالعامية المصرية : " وزارة محمد توفيق لازم تمشى ...و الدستور الجديد لازم يتلغى "
رد الآخر: " المشكلة مش فى دول..دول كلهم خدامين الانجليز ...حتى السرايا نفسها خدامين الانجليز ...المشكلة فى الانجليز ..لازم يخرجوا "
وصلنا الى عمارة حديثة – بتوقيت هذا الزمان- قديمة – بتوقيت زمانى الأصلى-  و دلفنا الى الشقة الأرضية بها و التى كان ملحق بها قبو هبطناه سريعاً لنجد مجموعة من الشباب جالسين و أمامهم مطبعة يقومون فيها بطباعة منشورات و جريدة صغيرة.

التقطت أحد أعداد الجريدة  التى كان اسمها الصرخة و نظرت للتاريخ  12 نوفمبر 1935...أنا اذا أعيش أحداث ثورة 1935 او الثورة المنسية كما يقولون .
دار الحديث بين الشباب حول مظاهرات الغد التى ستخرج من جامعة فؤاد فى عيد الجهاد الوطنى الموافق 13 نوفمبر و تم تقسيم الأدوار ما بين  توزيع المنشورات و قيادة الهتافات التى تطالب بعودة دستور 1923 و تطالب بريطانيا بأن تكف أيديها عن مصر "
قضيت ليلتى مع الشباب فى هذا القبو و خرجت معهم فى الغد الى الجامعة التى انتفضت كلها بمظاهرات رهيبة تهتف ذد الملك و السير هور ( وزير الخارجية البريطانى ) و ضد اسماعيل صدقى جلاد الشعب و تلعن دستور 1930
خارج أسوار الجامعة التحمت مظاهرات الطلاب مع الجنود الانجليز و فى رحى المعركة اقترب منى جندى بريطانى و صوب مسدسه الى بطنى و أطلق طلقة نفذت من بطنى و خرجت من ظهرى فسقط ميتاً

أفقت بعدها على أصوات تتحدث و وجدت صعوبة شديدة فى أن أفتح عيني ..بعد قليل فتحت عيني لأجد نفسى ملقى فى نفس الوضع أمام النيل و لكن فى حجرتى بالفندق و أمامى من الزجاج الكبير للغرفة يبدو نهر النيل عريضاً و يقف أمامى طبيب و عدة أشخاص من أمن الفندق و قال لى الطبيب : " لقد أسرفت كثيراً فى الشراب " و أضاف أحد الأشخاص العاملين بالفندق الذى بدا ذو منصب ادارى: " و فى الأكل ايضاً يا دكتور "

بدا على الأخير الاحتقار الشديد لى و لكنه ايضاً بدا مطمئناً لأننى بخير أخيراً ..نظرت فى ساعتى فوجدت أن أربعة و عشرون ساعة مضت و أن اليوم الثانى و الأخير للمؤتمر قد انتهى.

و سيظل السؤال قائماً هل كل ما عشته كان حقيقياً و خصوصاً أن كل الشخصيات التاريخية بل و الأحداث حقيقية أم انه النبيذ المعتق ؟

سؤال سيظل بلا اجابة على الأقل فى الوقت الحالى .

  



 




    

10/19/2011

المشعوذ


يحكى أنه فى قرية صغيرة فى بلد كبيرة فى يوم من أيام الزمان حدثت قصة مريرة.
كان أهل القرية أناس طيبون , فى الأرض هم يعملون , يأكلون و يشربون مما يزرعون و لكنهم للأرض لا يملكون بل يملكها حاكم ملعون.
هذا الحاكم كان فلاحاً فى الأرض مثلهم و لكنه كان أذكى منهم فملك أمرهم و صار كبيرهم , فى كل الأمور اليه يرجعون و عندما يختلفوا فبه يستنجدون و هو يستفتون.
كان يدعى العدالة و هو أبعد عنها ما يكون.
كان يدعى الحكمة و بالنساء هو مفتون.
كان الأهالى صابرين يعملون فى الأرض طوال النهار و فى الليل ساعتان لخدمة الحاكم يتطوعون, كان هذا هو القانون , و كانوا له يمتثلون.
كانوا لله شاكرين , يقولون بينهم و بين بعض نحن أفضل من الكثيرين.
نأكل و نشرب و نتزوج فهل هناك ما هو أفضل من ذلك؟! اننا لسنا بجاحدين.
و من بين أناس القرية خرج شباب متعلمون , فى الكتب كانوا يقرأون فوجدوا أنهم ليسوا أفضل من الكثيرين و تسألوا لماذا نحن صابرين ؟
أيعقل أن نزرع الأرض و نحصدها فنأخذ فتاتاً و يأخذ الظالم معظم المحصول؟ اننا أصحاب الأرض الحقيقيون و ما هو الا فلاحاً مثلنا و لكنه علينا طغى و استكبر و لقد حان أوان العدل ليسود و يكون.
ذهل الأهالى من الكلام الغريب , انهم لم يسمعوا مثل هذا من قبل و ان الأمر لعمرى رهيب.
قال قائل منهم " بل يكفينا ما يعطينا الحاكم – أطال الله بقاؤه – و لا نكن طماعين"
و رد اخر: " كلا, الشباب محقون , لماذا نحن صابرون ؟ ان هو الا عمراً واحداً فلنعشه على أحسن ما يكون "
فرد عليه ثالث يقول: " و ماذا عسانا فاعلين ؟ سنظل فى ديارنا حتى يرحمنا أرحم الراحمين فيخلصنا من الطاغية و يسود العدل القرية أجمعين"
قال الشباب متحمسين : " بل نتوكل على الله و ننتزع حقنا بأيدينا , ان الله لا يضيع أجر المحسنين"
و استمر النقاش و الجدال أياماً و ليال حتى علم الحاكم بالأمر فقال:
" أطمعتهم و كسوتهم و انى اراهم ساخطين ! أرسلوا البصاصين و ليأتونى بالخبر اليقين ".
و بعد يومين أتى البصاصون و دخلوا على الحاكم رعباً يرتجفون و هم يقولون : " مولانا , انهم الى هنا قادمون , ليس معهم سلاحاً و لكنهم كثيرون ".
قال الحاكم و قد استبد منه الخوف : " أرسلوا فى طلب المشعوذ"
رجل عجوز عيناه واسعتان تنظران نظرتان واثقتان , دخل على الحاكم و قال بامتنان : " فليجعل الله أيامك سعيدة يا مولاى يا حاكم كل عصر و أوان "
كان الحاكم خائفاً و كان ذلك واضحاً فتكلم قائلاً : " انقذنى ايها المشعوذ , لم يبق لى غيرك , هلكت القوات و الجنود و الأهالى مصممين على الصمود. فماذا عساك فاعلاً" .
لمعت عيناه فى دهاء و قال بكل كبرياء :" ارحل أنت يا مولاى الى اخر القرية بعيداً و احمل ما تستطع أن تحمله من جواهر و كنوز و ليرزقك الله عمراً مديداً".
فر الحاكم كالجبان و قال للمشعوذ بامتنان : " لا أبغى كنوزاً و لا جواهر هى ملكك كلها, ان حكمى قد انتهى , كل ما أبغيه الا يعرف أحد مكانى فأصبح فى حكم الفانى"
اما المشعوذ فابتسم و مشاعر الفرح قد رسم و خرج للأهالى الثائرين فكان أول القائلين رحل الحاكم اللعين
فرح الأهالى فغنوا و رقصوا.... ثلاثة أيام ما انتقصوا و المشعوذ محمولاً على الأعناق يهتف الناس له كمن وجد للسم ترياق
أفاق الأهالى الثائرون من نشوة الرقص و الجنون و قالوا للمشعوذ" نشكرك و نقدرك و نبجلك و لكن ماذا عسانا الان فاعلون؟"
قال المشعوذ " الى بيوتكم اذهبوا و فى أرضكم افلحوا و اتركوا لى هم الحكم فأنا معكم و حاميكم وسأولى من يصلح عليكم "
ثار الشباب المتعلمون و هتفوا قائلين : " كلا و ألف كلا , بل نحن نختار حاكمنا , انا الان قد فهمنا و علمنا أنه بعد اليوم لن يحكمنا من ليس منا "
قال قائل من الأهالى : " و من اين لنا أن نعرف كيف نختار ,اذا خٌيرنا سنحتار"
و قال اخر: " اننا لا نعرف عملاً سوى الفلاحة فى الأرض فلنترك للمشعوذ القرار فهو صاحب الاختيار"
رد الشباب و قالوا : " و لكننا لسنا أقل من غيرنا , سنختار و لن نحتار و نحن من اليوم أصحاب القرار "
هاجت الأهالى و ماجت و على الشباب المتعلمون ثارت و قالت : " اذهبوا الى دياركم أنكم لا تفقهون شيئاً , عاش المشعوذ , عاش المشعوذ "
قال الشباب الثائرون الذين أصبحوا من الأهالى محبطين : " و لكننا من صنعنا النصربأيدينا , لا ننكر أن المشعوذ حامينا و لكن لماذا نترك له مصائر الأمور ؟ لا نريد للكرة مرى أخرى أن تدور ؟ّّ!"
دفعهم الأهالى دفعاً للعودة الى البيوت و قالوا" يعيش المشعوذ و نحن نموت"
و بعد حين قبض المشعوذ على الشباب المتعلمين الثائرين فأودعهم السجون و مثل جيداً دور الحنون و استخدم شعوذته و سحره فمحى العقول و صاروا شعباً جهول لايختلفون فى شىء عن العجول
و لم يغادر الأهالى من بعدها البيوت و أصبح هتافهم الوحيد يعيش المشعوذ و نحن نموت
*****************************************************************

10/11/2011

حالة مرضية

حالة مرضية ( كاملة )

1- جلس ينتظر فى عيادة الطبيب محاولاً قدر الامكان تجنب الوجوه المحيطة به , أخرج هاتفه المحمول و أخذ يعبث فيه محاولاً القضاء على الوقت ريثما يأتى دوره.

أخرجه من شروده صوت الممرضة تأذن له بالدخول فقام متحاشياً النظر الى وجهها قدر الامكان و رفع عينيه عن الأرض قليلاً ليرى طريقه و طرق باب غرفة الطبيب ثم فتحه و دخل.

طالعه الطبيب مرحباً فحاول أن يتفادى النظر اليه هو الاخر و لكنه لم يستطع فنظر الى وجهه مباشرة, ابتسم استهزاءاً و الماً فقد اعتاد هذا الأمر كلما نظر الى وجه أحد.

طلب منه الطبيب أن يجلس مسترخياً على السرير الممد بالغرفة و سأله عن نوعية الموسيقى التى يفضلها فأجابه ببرود.

قام الطبيب من كرسيه و غير من اضاءة الغرفة الى اضاءة هادئة و سرعان من انبعث من مكان ما لا يراه بالغرفة صوت موسيقى مطربته المفضلة فهدأت أعصابه و شعر بالرغبة فى النعاس خصوصاً مع دفء درجة حرارة غرفة الطبيب الذى كان جسده يحتاج اليه للهروب من برودة الجو فى الخارج.

تركه الطبيب هكذا لمدة لا تقل عن خمسة دقائق و بدأ الطبيب فى مراجعة الاستمارة التى ملأها قبل دخوله الى غرفته و التى دون فيها كل بيانته بدقة شديدة.

بدأ الطبيب بصوت رخيم يتلوعليه بيانات الاستمارة فى هدوء: "

هانى مجدى ...34 عام ...مطلق و لديك طفلة تدعى سارة ...تعمل مديراً للدعاية و الاعلان فى شركة كبيرة لم تذكر اسمها ...تقطن فى القاهرة الجديدة وحيداً منذ انفصالك عن زوجتك...لا تعانى من اى مشاكل صحية ...تدخن بشراهة ...تشرب الكحوليات فى المناسبات و بكميات قليلة ...لا تتعاطى أى نوع من أنواع المخدرات....تهوى السباحة و الرحلات... دخلك الشهرى يتخطى العشرين ألف جنيهاً مصرياً ..هى زيارتك الأولى لطبيب نفسى ..."

ثم صمت قليلاً و أكمل: " لماذا فكرت فى زيارة طبيب نفسى يا هانى؟ "

فتح هانى عينيه المغلقتين و نظر عالياً الى سقف الغرفة الملون بألوان هادئة و أجاب " لأننى مريض نفسى يا دكتور و مرضى من نوع خطير جداً ..."

صمت الطبيب ليعطيه فرصة أكبر للكلام و لسرد قصة مرضه و لكن هانى صمت قليلاً ثم عاد ليتكلم كمن يتحدث الى نفسه – و هو ما يريده الطبيب – بصوت منخفض و لكنه مسموع : " أذكر تحديداً بداية مرضى ...أذكر كل ما قبل مرضى جيداً كذلك..لم تكن الحياة رائعة و لكنها كانت محتملة ...أنا خريج الجامعة الأمريكية منذ 14 عام تقريباً ..سافرت بعد تخرجى الى أمريكا فانهيت دراسة الماجيسيتر فى احدى جامعتها و عدت لأفتتح شركة خاصة للدعاية و الاعلان..لم أوفق فى ادارتى للشركة فصفيتها و بدأت فى البحث عن عمل ...بعد عامين من البحث الكثيف وجدت فرصة مناسبة لما كنت أطمح اليه بشدة و هى مسئول للدعاية و الاعلان فى احدى الشركات المعروفة نوعاً ما...بدأت حياتى فى الاستقرار و بدأت فى البحث عن زوجة لاستقر تماماً ...ساعدتنى احدى زميلات العمل فى التقرب من احدى قريباتها و بالفعل وجدتها ملائمة لدرجة كبيرة من المواصفات الموجودة فى ذهنى فهى بنت من عائلة كبيرة و مرموقة و على قدر كبير من الجمال و الثقافة... لم تستمر الخطبة الا عدة شهور بعدها تزوجنا و رزقنا بسارة بعد أقل من عام على زواجنا ...عندها بدأت المشاكل الزوجية..فى البداية كانت مشاكل زوجية معتادة ثم بدأت فى التواتر و التراكم خصوصاً مع اهمالها التام لشئون المنزل و الطفلة بحجة الانغماس فى العمل ...طلبت منها أن تأخذ اجازة دون مرتب أو أن تستقيل فنحن – و الحمد لله- لسنا بحاجة الى مرتبها و لكنها رفضت و ثارت و بدأت الفجوة بيننا تزيد..لم أجد بداً من الاعتماد على نفسى لحل مشكلة المنزل من أجل الطفلة الصغيرة ...كنت أعرف بعض من زميلات عملها منذ أيام الدراسة الجامعية ...قمت بحيل و ألاعيب شيطانية من أجل أن تزداد المشاكل فى عملها و يصبح الاستمرار فيه مستحيلاً ...قاومت فى البداية و حاولت الصمود و لكن نفوذى فى شركتها كان متغللاً كما أننى قمت باغراء اولئك الزميلات بتوفير البديل المناسب لزوجتى و بمرتب أقل و كفاءة أكبر كما أننى أقنعتهم أن ما يفعلونه كان فى مصلحة الفتاة الصغيرة و الأسرة الناشئة.

أسفرت محاولاتى المتكررة عن فصلها من عملها و هو ما أصابها باكتئاب شديد لفترة ليست بالقصيرة و حاولت البحث عن عمل اخر و لكن نظراً لأن مجال عملها – الذى هو مجال عملى – مجالأً ضيقاً فقد كان من الصعب أن تحصل على عمل اخر بعد فصلها من العمل فالأمر اولاً و اخيراً يعتمد على السمعة.

هدأت الأمور لفترة بعد أن أيقنت أن فرصة حصولها على عمل شبه مستحيلة و بدأت فى الاهتمام بسارة و بالمنزل أكثر وهو ما ساعدنى على أن أركز أكثر فى عملى و أنال الترقية التى جعلت منى مديراً للدعاية و الاعلان فى كل فروع الشركة.

بلغت سارة سن المدرسة و مع دخولها الى المدرسة سارت التزامات زوجتى أقل و صار وقت فراغها أكبر و عاد اليها أمل الحصول على عمل مرة أخرى وهو ما كان يمثل لى كابوساً و بالفعل اقتربت من الحصول على فرصة جيدة فى احدى الشركات و لكنى تدخلت بقوة أكبر هذة المرة..لم يكن هناك مجالاً للتشكيك فى كفائتها الفنية أو خبرتها الأكاديمية و لم أجد بداً من أن أشكك فى شخصيتها من أجل افساد العرض المغرى ...كان عرضاً كفيلاً بهدم استقرار المنزل تماماً فمرتبها كان سيصبح يفوق مرتبى كما أن المنصب كان أعلى من منصبى و هو ما يهدد باستقرار القواعد المؤسسة للبيت ...لا تنظر الى هكذا يا سيدى! فأنت لا تعرف المرأة المصرية مثلما أعرفها ..اذا كانت نالت هذة الوظيفة لبقيت أنا أعمل مربية للطفلة فى المنزل و لصارت هى " رجل البيت " ...انها العقلية الشرقية التى أعرفها جيداً ...كان لابد من افساد هذة الفرصة و قد كان..و بعد ذلك ...."

قاطعه الطبيب لأول مرة منذ أن بدأ الكلام : " هانى ...هل من الممكن أن تخبرنى تحديداً ماذا فعلت لتفسد عليها هذة الفرصة؟ "

تنهد هانى بصوت مسموع و قال : " حسناً ...لابد و أن أخبرك بكل شىء حتى أحصل على العلاج المناسب فالحكاية الخطأ ستؤدى الى تشخيص خطأ و بالتالى الى علاج خطأ ..أليس كذلك " ؟

أجابه الطبيب بحزم " و كذلك الحكاية الناقصة ستؤدى الى علاج ناقص..من فضلك أريد كل التفاصيل.."

أردف هانى قائلاً: " سأخبرك بكل شىء ....كما أسلفت لم يكن هناك حل الا التشكيك فى زوجتى كشخص و بالتالى فلم أجد بداً الا أن أشكك فى سلوكها و أخبرت صاحب الشركة بطريق غير مباشرة أننا على وشك الطلاق بسبب سلوكها الأخلاقى المنفلت و أن هذا هو السبب الغير معلن لفصلها من الشركة القديمة ..و بالفعل فقد كان كلامى محل ثقة عمياء فى البداية لأننى رجل من الوزن الثقيل فى مجال الدعاية و الاعلان و الأهم أننى زوجها و لم يتصور أحد أن يقوم زوج بتلفيق مثل هذة الاتهامات لزوجته..المهم سحبت الشركة عرضها و علمت زوجتى بالخبر بعد أن عادت من الخارج و فى يدها سارة و العديد من الملابس الجديدة التى اشترتها زوجتى لبدأ العمل الجديد...لم تصدق فى البداية الخبر الذى قرأته على بريدها الالكترونى على هاتفها المحمول و حاولت مراراً و تكراراً معرفة الأسباب و لكن لم يجبها أحد ابداً ...كنت للحق زوجاً حنوناً فى تلك الفترة فساعدتها على تجاوز محنتها ووقفت الى جوارها كما أننى اصطحبتها الى رحلة فى أوروبا للخروج من الحالة الكئيبة و استعدنا خلال تلك الرحلة ذكريات شهر العسل الجميلة....ظننت أن الحياة استقرت تماماً و صارت مثالية و لكنها لم تكن كذلك..فبعد حوالى عام من العودة من أوروبا عرفت زوجتى بشكل ما أننى كنت وراء تراجع الشركة عن عرض العمل المقدم لها كما أنها عرفت ايضاً أننى كنت السبب فى فصلها من عملها القديم ...فى البداية لم أكن أدرى انها عرفت و لكننى لاحظت تغيراً على شخصيتها و ميلها الى الهدوء و السكون و قلة الكلام على عكس عادتها ثم بعد فترة عدت الى المنزل من العمل فلم أجدها و لم أجد سارة و لا أى من متعلقاتهما و اتصل بى أخوها تليفونياً يقول أنها لن تعود الى المنزل و أنها تطلب الطلاق ...وقتها فهمت أنها عرفت كل شىء ....لم يكن أمامى بد الا الاستجابة لطلبها خصوصاً و أنها رفضت رفضاً تاماً مجرد الجلوس معى أو محاولات الصلح..بعدها مباشرة بدأت أعراض الحالة المرضية ...

******************************************************

2-
"
أصبت لفترة باكتئاب شديد و فقدت الكثير من وزنى و أصبحت قليل التركيز ..كانت زوجتى- أقصد مطلقتى لا تسمح لى برؤية سارة ابنتى -التى بلغت عامها السابع- ابداً و عرفت من بعض الأصدقاء المشتركين أنها قد أقنعت سارة بأننى شخص غير جيد و أنها من الأفضل أن تتأقلم على الحياة بلا أب بدلاً من السؤال عن والدها بشكل مستمر.

أصبحت قليل التركيز و قليل الكلام جداً كما أن شعور الوحدة كان قاتلاً ..فكرت فى العودة الى منزل والدى ووالدتى و لكننى تراجعت و فضلت الاستمرار فى منزلى حيث تطاردنى الذكريات فى غرفة نومى و فى غرفة سارة التى أصبحت خالية منها و من ألعابها ..صرت أقضى معظم وقتى فى غرفة سارة أتذكر أيام لعبها فى هذا المكان ..صوتها ...ضحكها ...بكائها...أتذكرها و هى تملأ الدنيا صخباً و ضوضاءاً جميلة و تؤرق نومى أنا و زوجتى.

أصبحت مطارداً بالذكريات ...مشتاقاً لرؤية ابنتى الصغيرة و لو لساعة واحدة ..كنت أحاول أن أذهب الى مدرستها و أراها و هى تدخل اليها أو تخرج منها..كنت أتوارى حتى لا ترانى مطلقتى و أنا أرى ابنتى عن بعد و فى مرة من المرات لم تحضر مطلقتى الى المدرسة و أرسلت أخيها بدلاً منها...تجرأت و ذهبت اليه و طلبت منه أن يراعى مشاعرى كأب و يسمح لى بأن أكلم طفلتى التى تكبر يوماً بعد يوم بعيدة عن أبيها..وافق بعد تردد...ذهبت الى سارة و هى خارجة من باب المدرسة و أنا أشعر بأن روحى المفقودة تعود الى من جديد....ولكن فاجأتنى الطفلة بعبوس شديد و أحجمت عن ذراعاى المفتوحتان و ارتمت فى أحضان خالها و بدأت فى البكاء بشدة...لم يجد الخال بداً من أن يأخذها و يذهب و من يومها انقطعت عن الذهاب الى المدرسة و أخذت أجازة مفتوحة من العمل و حبست نفسى فى غرفة سارة مع ذكرياتها محاولاً استحضار روحها"

صمت هانى فنظر الطبيب اليه ملياً و قال " اذا أنت تعانى من اكتئاب حاد بسبب الوحدة التى تعيش فيها بعد الطلاق و اشتياقك لرؤية ابنت التى حرمت من رؤيتها ! "

ابتسم هانى ساخراً و قال للطبيب " لو أن هذة هى مشكلتى لم أكن لأذهب لزيارة طبيب نفسى ابداً "

بدا الاهتمام على وجه الطبيب و قال له " اسف لمقطاعتك ...أكمل يا هانى من فضلك "

أكمل هانى قائلاً " حاولت أن أخرج من دوامة الانعزال و الاكتئاب الى ممارسة الحياة بشكل شبه طبيعى فقررت العودة الى العمل من المنزل اولاً حتى أخرج تدريجياً من هذة الحالة الانعزالية و بدأت أتواصل الكترونياً مع الأصدقاء و الزملاء الذين انقطعت عنهم منذ فترة و فتحت هاتفى المحمول المغلق منذ أسابيع و بدأت الحياة تعود تدريجياً و لكننى ظللت قابعاً فى غرفة سارة ...أعمل فيها و اكل فيها و أنام على سريرها الصغير الذى لا يسع جسدى ..لم أكن أخرج منها الى الا الحمام أو الى المطبخ لاعداد الطعام. و مرت أسابيع على هذا الحال و تحسنت صحتى بشكل جزئى كما بدأت أستعيد جزءاً من مرحى القديم "

أجابه الطبيب " جيد ..و ماذا حدث بعد ذلك ؟ "

زفر هانى بقوة " بعدها كان لابد من اجراء بعض مقابلات العمل مع احدى العملاء البارزين فكما تعلم حضرتك أن طبيعة عمل الدعاية و الاعلان تتطلب لقاءات مع العملاء فلا يمكن ابداً أن تنجز كل أعمالك عن طريق الهاتف و البريد الالكترونى "

الطبيب مؤمناً على كلامه " طبعاً ..كان لابد و أن تترك المنزل و تبدأ فى النزول الى الشارع "

أكمل هانى : " و هنا بدأت المصيبة ...ارتديت حلة أنيقة و نزلت الى سيارتى الموجودة بالأسفل..ركبتها و أدرت المحرك و تركته لفترة ثم انطلقت صوب الشركة التى لدى موعداً فيها..وصلت الى الشركة و تركت سيارتى بالجراج و صعدت بالمصعد الذى وصل بى الى الدور الذى يقع به مكتب مدير الشركة ...خرجت من المصعد و دلفت الى الداخل فوجدت رجل أمن يقرأ فى جريدة فألقيت عليه تحية الصباح ملامحها ..رفع الجريدة عن عينه و رد التحية و عندها أصابتنى الصاعقة فقد وجدت ملامح الرجل هى ملامحى أنا "

قاطعه الطبيب " اسف مرة أخرى للمقاطعة و لكن ماذا تعنى بأن ملامح الرجل كانت هى ملامحك أنت؟!! "

قال هانى : " كان الرجل يحمل وجهى يا دكتور ..يرتدى زى الأمن الأزرق التقليدى و لكنه يحمل وجهى أنا ..نفس القسمات ..نفس البشرة البيضاء و الشعر البنى و العيون البنية الواسعة...كل الملامح التى تراها حضرتك الان هى ما رأيته فى وجه الرجل ...ظننت أن ما بى نتيجة انقطاعى عن رؤية كل البشر لعدة أسابيع و تأثير الوحدة الشديدة و لذا تجاهلت الأمر جزئياً و ان ظللت أفكر به و أنا أسير مع رجل الأمن داخل طرقات الشركة وصولاً الى مكتب المدير الذى طرقه شبيهى و استأذن لى فى الدخول و عندما دلفت من باب الشركة وجدت مدير الشركة شخصاً سميناً قصيراً يمد يده لى مرحباً فمددت يدى ثم سحبتها مذعوراً عندما وجدت المدير ايضاً يحمل نفس ملامحى ...سألنى المدير عن ما حل بى ...حاولت عدم النظر الى وجهه و اعتذرت له عن الاجتماع لأصابتى بوعكة مفاجئة ...تجاهلت نداءاته و هبطت مسرعاً من الشركة ...وجدت فتاة فى المصعد طويلة ممشوقة القوام و تحمل نفس وجهى ايضاً ...ذعرت شبيهتى من الصرخة التى أطلقتها وما أن انفتح باب المصعد حتى انطلقت جرياً كالممسوس و أخذت أنظر فى وجوه كل الناس ..رجال ....شباب ...شيوخ ..أطفال...نساء ...بنات ...كلهم يحملون وجهاً أعرفه جيداً و أحبه ...وجهى أنا ...بدأت أبكى و انطلقت الى سيارتى و عدت بها الى المنزل...نظرت بحسرة الى عسكرى المرور الذى صار يحمل وجهى و ذعرت عندما وجدت بائع الجرائد ايضاً يحمل وجهى ...وصلت الى المنزل و دخلت الى غرفة سارة و ارتميت على سريرها الصغير و ظللت أبكى و أبكى حتى نمت.

اتخذت قراراً بعدها الا أخرج من الغرفة ابداً و أن أظل بها حتى أشفى....تناولت العديد من المهدئات و حاولت النزول الى الشارع مرة أخرى و لكن فشلت التجربة ووجدت أن وجهى مكان وجوه كل الأشخاص الذين أقابلهم ....بعد فترة أصابنى اليأس و لم أجد بداً من اللجوء الى طبيب نفسى لعله يملك الحل "

صمت هانى و أغلق عينيه ووجهه ينظر الى سقف الغرفة اما الطبيب فحاول التغلب على ذهوله و نظر الى هانى طويلاً ثم قال له " اذا أنت ترانى الان أشبهك ؟ "

نظر اليه هانى نظرة مباغتة و قال اسفاً " نعم يا سيدى ...هذة هى الحقيقة المؤسفة ...أنت الان تشبهنى و ممرضتك الموجودة بالخارج تشبهنى و كل الناس يشبهوننى ....كلا ...لا يشبهوننى بل هم أنا ! "

استغرق الطبيب فى التفكيرللحظات و قال له " انها حقاً حالة غريبة جداً ..لم تصادفنى من قبل ...من المؤكد أنها نابعة من شعورك بالذنب نتيجة أنانية تفكيرك و ما ألحقته من أذى لزوجتك و ابنتك .."

رد هانى ساخراً " ياله من تشخيص ممتاز ...أعلم كل هذا يا دكتور ..أنا لم ات اليك لتشخص حالتى ..أنا أحتاج علاجاً ! "

قال له الطبيب بنرة عصبية و هو يكتب شيئاً ما فى مفكرته " حسناً ...خذ قرص بعد كل وجبة!!!..اى علاج الذى تريده يا سيد هانى ....هل تتوقع أننى ساحر ...سأعطيك دواءاً من درج مكتبى يجعلك ترى الناس فى صورتهم الطبيعية "

قالها و مزق ما كتبه فى مفكرته و ألقاه فى سلة المهملات و ران صمت على المكان لفترة من الوقت.

قطع الطبيب الصمت القاتل : " اسمع يا أستاذ هانى ..حالتك غريبة جداً و معقدة .. و أنا شخصياً لا أستطيع أن أجد لك علاجاً أكثر من أن أعطيك بعض المهدئات و مضادات الاكئتاب و أن أطلب منك ممارسة الرياضة لفترة طويلة يومياً ...داوم على ذلك لمدة عشرة أيام و بعدها سنرى اذا كان هناك تقدماً أم لا؟ "

قال هانى يائساً " و اذا لم يكن هناك تقدماً ؟ "

رد الطبيب " من الممكن عندها أن ننتقل الى مرحلة أخرى عن طريق العلاج بجلسات الكهرباء "

ذعر هانى من كلمة الكهرباء و ارتجف جسده كأن الكهرباء قد صعقته فعلاً و قال : " كهرباء!! لهذة الدرجة ...هل صرت مجنوناً يا دكتور ؟ "

أجاب الطبيب بثقة من استعاد السيطرة على زمام الأمور : " كلا يا سيد هانى ...لا يوجد من هو مجنون كما ترى فى الأفلام و لكم كل منا يعانى خللاً نفسياً ما , فى حالتك الخلل النفسى أدى الى ما تراه..هذا ببساطة و ما أنزل الله من داء الا و أنزل له دواء"

صمت هانى و قال للطبيب : " حسناً ...سأفعل ما قلته لى ..لعل و عسى , هل هناك شيئاً اخر ؟ "

فكر الطبيب و قال له " أستاذ هانى ..كيف حال روحانياتك؟ هل تصلى ؟ هل تفعل اى شىء روحانى ؟ "

رد هانى " كلا يا دكتور ...لا أفعل اى من تلك الأشياء "

أجابه الطبيب مباشرة " لابد من الروحانيات يا أستاذ هانى فهى جزء من العلاج ...تقرب من خالقك بطريقتك و لكن لا تغفل الروحانيات "

رد هانى " ان شاء الله يا دكتور "

ابتسم الطبيب و مد يده الى هانى قائلاً : " بالشفاء ان شاء الله و أراك بعد عشرة أيام من الان "

صافحه هانى متحاشياً النظر اليه و فتح باب العيادة و خرج مسرعاً ناظراً الى الأرض

3- هبط هانى بتؤدة محاولاً استخدام النور المنبعث من هاتفه المحمول كى لا يتعثر على درجات السلالم المكسورة و طرق الباب طرقتين و انتظر حتى سمع صوتاً يأذن له بالدخول فدفع الباب بيده ووجده مفتوحاً فعبره بحرص قبل أن يعيده الى الوضع الأول.

لم يتمكن من رؤية اى شىء بداخل الغرفة بسبب الظلام الشديد و سمع نفس الصوت يقول " تفضل بالجلوس يا سيد هانى "

أخذ يتحسس مكان المقعد حتى يجلس ووجده منخفضاً للغاية قريباً من الأرض فجلس عليه و بدأ يحاول رؤية اى شىء من خلال الظلام فلم يفلح.

أقل من دقيقة و شعر برجل يدلف الى الغرفة من مكان ما مجهول و بدأت عينا هانى تعتادا الظلام فتمكن من رؤية شبح الشخص القصير الضئيل الحجم و لكن دون رؤية ملامحه و هو ما كان يمثل لهانى راحة نفسية بكل تأكيد, تابع هانى الشبح بعيناه و راقبه و هو يجلس على مسافة خمسة أمتار تقريباً من موضع جلوسه و يعبث فى شىء ما تحت قدمه أضاء المكان حيث يجلس هانى فقط اما الرجل فظل من العسير جداً رؤيه ملامحه و ان كان قد صار أكثر وضوحاً طبعاً بفضل الاضاءة.

قال الرجل الضئيل" تفضل, خبرنى ما هى علتك ؟ "

قال هانى مبتسماً ابتسامة مستهزئة " و أين البخور و أدوات العمل يا مولانا ؟ كما أننى توقعت أن تخبرنى أنت بالعلة بل و تخبرنى باسمى و اسم أمى كما كنا نراكم فى الأفلام ؟ "

ضحك الرجل الضئيل ضحكة قصيرة جداً و قال له " يا سيدى ما تراه فى الأفلام غير حقيقى بالمرة, أنا لا أستخدم البخور كما أننى لا أحضر جن و لا علاقة لى بذلك على الاطلاق, انا مجرد خبير مثل الطبيب النفسى الذى من المؤكد أنك قد زرته و لم ينجح فى علاجك و هذا عرفته بالفراسة وحدها ولا علاقة للخوارق بالموضوع"

بدا على وجه هانى الاهتمام و قال له" الفراسة ؟ لماذا أنت متأكد أننى قد زرت طبيباً نفسياً قبل زيارتك؟ "

رد سريعأً :" لأنك متعلم مثقف و من مستوى مادى جيد للغاية كما يظهر لى من شكلك و سيارتك الموجودة بالأعلى و أنا على يقين أنك زرت طبيباً نفسياً و لم ينجح و لذا قررت أن تأتى الى من يعتبر دجالأً من وجهة نظرك كحل أخير لشخص يائس"

قال له هانى : " أصبت ..لقد زرت طبيباً نفسياً و أعطانى علاجاً لمدة عشرة أيام و لكن لم يحدث تحسن على الاطلاق فقط صرت أميل للهدوء و أشعر بالرغبة فى النوم كثيراً و لقد أخبرنى فى زيارتى له أنه اذا فشل العلاج فسيلجأ للكهرباء و هو ما أرفضه تماماً و لذا فلقد قررت اللجوء لك قبل الكهرباء "

استرخى الرجل الضئيل فى مقعده و قال لهانى " حسناً ...ابدأ الحكاية من أولها..تفضل.. "

أنهى هانى قص حكايته على الرجل الضئيل الذى لم يبد عليه اندهاش بل صمت تماماً حتى أنهى هانى قص كل شىء عليه ثم بدا على وجهه ملامح التفكير العميق و قال له :" عادة لا يرى أحد من زبائنى وجهى فأنا أعمل فى مهنة عادية فى ساعات الصباح و لدى أسرة كذلك و لذا فأنا أحرص على اضاءة المكان بهذا الشكل حتى اذا التقيتنى فى الطريق أو فى مكان لا تعرفنى و لكن فى حالتك أظن أنه لا بأس من أن نضىء المكان"

قالها و قام من مجلسه متجهاً الى باب غرفة جانبية و ما هى الا لحظات و كان المكان يشع ضوءاًَ مبهراً أعمى هانى للحظات فوضع يده اليمنى فوق عينيه حتى اعتادت الضوء ثم فتحها بعد فترة ليجد أمامه شخصاً قصير القامة ضئيل الجسد يرتدى جلبابأً أبيض اللون فضفاضاً و كالعادة يحمل الشخص ملامحه ذاتها.

قال هانى للرجل" و الان ..ماذا تقترح ؟ "

تفرس الرجل فى ملامحه جيداًو كأنما يتأكد أن هانى ا يرى شكله الحقيقى ثم قام من جلسته مرة أخرى و أحضر مراه صغيرة الحجم أعطاها لهانى و قال له " ماذا ترى فى هذة المراه؟ ".

أجابه هانى هازءاً " أرى وجهى "

تحرك الرجل حتى صار خلف هانى تماماً ثم بدأ فى الظهور من خلفه ببطء حتى تظهر صورته فى المراه تدريجياً و بوغت هانى من رؤية شكل الرجل الذى فهم من ملامح وجه هانى و نظرات الارتياع الممزوجة بالأمل التى ارتسمت على وجهه أن هانى راه صورته فاختفى من المراه و عاد الى موقعه أمام هانى سريعاً اما هانى فقد كان يمنى النفس بنظرة أطول لوجه اخر غير وجهه. و لكنه محبطاً أعطى الرجل المراه و قال له " ماذا يعنى ذلك؟ "

قال الرجل " طليقتك يا سيد هانى قامت بربط عمل لك ..عمل يجعلك غير سعيد فى حياتك و ينغص معيشتك و لكن للأمانة فان فكرة العمل مبتكرة و لا أظن أنها من تأليف زوجتك بل من تأليف من استعانت به أو بها "

رد هانى قائلاً " شخصياً ..استبعد لجوء طليقتى الى عمل او مثل هذة الأشياء فلا أظن أنها تؤمن بها من الأصل ..هل أنت متأكد من أن الموضوع عمل و من طليقتى؟ "

قال له الرجل " يا سيد هانى..هذا هو رأيى الشخصى, الطبيب النفسى فسر حالتك على أنها مرض نفسى و أنا أرى أنه عمل من شخص يريد لك تكدير المعيشة و لست أدرى ان كان من زوجتك أم لا ..ابحث عن من يريد أن يؤذيك "

قال هانى يائساً " فليكن ..سأسلم بأنه عمل ...و لكن ما العمل مع هذا العمل ؟ "

أجابه الرجل " لابد من العثور عليه و ابطاله ..أنا ان شاء الله قادر على ابطاله ..فقط اتنى به و سأبطل لك مفعوله باذن الله "

قال له هانى منفعلاً " لابد أنك تمزح . من أين يمكن أن أتى بهذا العمل اللعين ؟ هل أبحث فى القاهرة شبراً شبراً أم أكتب اعلاناً فى الوسيط ؟ "

قال له الرجل بهدوء " لا أسمح لك بالسخرية يا سيد هانى .. أقدر تماماً انفعالاتك و لكن لا تسخر من كلامى , أنا لا أملك الا ما قلته لك , هل تظن أننى أملك عصا سحرية تستطيع معرفة مكان العمل بضغطة زر !! "

زفر هانى بقوة " و لكن هكذا صارت الأمور أصعب يا مولانا ....ماذا عساى أن أفعل ؟ أنا فى حيرة من أمرى و لقد شارفت فعلاً على اليأس , ان حياتى تنهار أمام عينى و أنا أشاهدها دون أن أحرك ساكناً ..بالأمس فقط أرسلت لى الشركة بأن اجازتى المفتوحة قد طالت أكثر من اللازم و أنه فى خلال أسبوع من الان لابد و أن أعود الى العمل و الا فسيوفرون البديل لى ...ابنتى أتمنى أن أراها و لا أستطيع ..اصدقائى بدأوا ينفرون منى و يظنوننى غريب الأطوار لأنى أرفض تماماً رؤية اى شخص ...ان حياتى تتحول الى جحيم يا مولانا "

لمح الرجل الضئيل الدموع تترقرق فى عينى هانى فربت على كتفه مهدئاً و قال له " لا تيأس يا ولدى ..ما زال الوقت مبكراً على اليأس و الأمل فى شفائك موجود ان شاء الله , فكر أين يمكن أن تخبى زوجتك عملاً فى مكان أمين لا تصل اليه اى يد و أنا موجود فى خدمتك فى اى وقت "

قام هانى من مكانه و صافح الرجل الضئيل " أشكرك يا مولانا و أعتذر على سخافة أسلوبى...السلام عليكم "

قالها و خرج من غرفة الرجل فارتقى درجات السلم و أدار سيارته و انطلق باتجاه أحد الأماكن الخالية من البشر, جلس على حافة الهضبة العالية وأخرج سيجارة أشعلها و بدأ ينفخ دخانها ببطء و هو يفكر فى حل للمشكلة و يفكر ايضاً أن يمكن أن تخبىء زوجته العمل ان كان هناك شيئاً كهذا اصلاً "

أنهى سيجارته و قام من مجلسه باتجاه السيارة و قال لنفسه : " اذا أنا لا أملك الا هذا الحل...هو الحل الوحيد و الأمل الأخير"

4- نظر هانى من نافذة سيارته الى الزحام الذى تموج به هذة المنطقة الشعبية و خصوصاً فى هذا الوقت من اليوم قبيل المغرب بقليل ونظر الى الشارع الضيق الذى عجزت السيارة أن تمر منه فتخطاه و اقترب بسيارته من الرصيف و توقف تماما ليخرج هاتفه المحمول و يطلب رقماً ما و سرعان ما جاء صوت أنثى من الناحية الأخرى محيياً " اهلاً يا باشا " , أجاب هانى فى ملل و عجلة " اسمعينى ..أنا لن أستطيع أدخل الى شارعك الضيق بانتظارك عند مدخله أمام المبنى الأخضر ".

أجابه الصوت " ثوانى و أكون فى المكان يا هانى باشا " .

أغلق الخط و أخرج سجائره فأشعل سيجارة و ألقى العلبة و الولاعة فى عصبية على تابلوه السيارة أمامه و أخذ يدخن و ينفذ الدخان بعنف.

مرت دقائق معدودة ثم جاءت سيدة طويلة و بدينة نوعاً ما ترتدى عباءة سوداء تلتصق بجسدها و يكشف غطاء رأسها عن خصلات من الشعر الأسود الناعم, خرجت من الشارع الضيق فى تؤدة و مهل و ابتسمت بعد سمعاها لغزل فاحش من صاحب دكان على ناصية الشارع الضيق, اتجهت بثقة الى سيارة هانى الذى جلس يدخن فى توتر و فتحت الباب فالتفت اليها متحاشياً وجهها كالعادة قائلاً بسرعة و لهفة " أين هو ؟ ".

ضحكت ضحكة رقيعة و مدت يدها الى علبة السجائر الخاصة بهانى فأخرجت سيجارة منها دونما استئذان و أشعلتها ثم نظرت اليه نظرة ذات معنى و قالت : " باقى المكافأة اولاً يا باشا ".

أخرج هانى محفظته و عد عدة أوراق من فئة المائة جنيه ثم أعطاها اياهم فعدتهم مرة أخرى ثم قالت فى جشع : " أريد مائتى جنيهاً اضافية , حضرتك لا تعلم ما واجهنى من عواقب للحصول على هذا الشىء " .

قال هانى و قد فقد السيطرة على أعصابه " و لا مليم أحمر , أعطينى اياه أو اعطينى نقودى".

دست السيدة يدها اليمنى بداخل صدرها و أخرجت لفافة بلاستيكية صغيرة فضتها فى بطء و كانت قد انتهت من تدخين سيجارتها فألقتها من النافذة و أشعلت أخرى من علبة هانى دونما استئذان ايضاً و أخرجت ورقة مطوية بعناية على شكل هرمى و مكتوب عليها عدة حروف عربية و أرقام لاتينية أعطتها لهانى الذى أمسك بها فى لهفة و قال لها: " شكراً و الان مع السلامة , لابد أن أغادر " .

ابتسمت كاشفة عن أسنان صفراء و فتحت باب السيارة و قالت لهانى و هى تودعه: " مع السلامة يا باشا و اذا احتجت شيئاً اخر أنا فى الخدمة ..اى شىء يا باشا ...هنومة تصنع المعجزات" قالتها و أغلقت الباب و استدارت عائدة الى الشارع الضيق بخطوات بطيئة للغاية اما هانى فقال بصوت عال بعد أن أغلقت الباب : " عاهرة و لصة " ثم التفت الى الشىء الملقى فى يده فأخذ يتفحصه بعناية و أردف و هو ينظر الى هنومة التى أخذت فى الابتعاد داخل الشارع الضيق : " و لكنك فعلتيها يا بنت العاهرة".

هبط هانى درجات السلالم بسرعة أكبر مما فعل للمرة الأولى و طرق الباب بقوة فجاءه صوت " تفضل " .

دخل هانى سريعاً فوجد الرجل الضئيل الحجم منتظره فى المكان الذى التقيا فيه قبل ذلك فبادره هانى قائلاً بلهفة واضحة: " وجدته يا مولانا ..ها هو العمل " .

أمسك الرجل الضئيل بالعمل بين يديه و ابتسم قائلاً : كيف و أين عثرت عليه ؟ "

أجاب هانى فى زهو : " فكرت و تأكدت من أن شيئاً كهذا لابد و أن يكون مخبئاً فى منزل طليقتى و لذا فقد استعنت بسيدة تعرف الخادمة التى تنظف شقة زوجتى و لقد أخذت منى مبلغاً كبيراً مقابل احضاره من الشقة".

قال الرجل فى اهتمام : " الحمد لله و الان أتركك بعض الوقت لأفحص هذا العمل و أعود اليك".

قال هانى مازحاً و قد ارتفعت روحه المعنوية : " و متى تظهر نتيجة الأشعة يا دكتور؟ " ثم أطلق ضحكة قوية و أخرج سيجارة ثم أردف : " تفضل يا مولانا أنا بانتظارك".

دخل الرجل الى داخل الغرفة و أغلق بابها عليه بينما أشعل هانى السيجارة المعلقة فى فمه منذ دقيقة تقريباً و أخذ يغنى بصوت خفيض أغنية انجليزية شهيرة.

كان مزاجه رائقاً الى حد كبير منذ أن نجحت هنومة فى الحصول على العمل من شقة طليقته و ان كان لا يزال يشوبه بعض التوتر بانتظار الشفاء النهائى.

شرد هانى بخياله متخيلاً عودة الحياة الى طبيعتها و أن يتمكن من رؤية الوجوه الحقيقية لكل من يعرفهم و من لا يعرفهم كما كان الحال قبل العمل.

تخيل هانى عودته الى الشركة المقرر لها بعد غد و تعويض كل ما فاته فى الفترة الماضية, تخيل أن تنتهى عذاباته كلها فى خلال لحظات و أن يخرج عليه الرجل معلناً انتهاء اللعنة التى تسببت فيها الشيطانة طليقته التى تحرمه حتى من رؤية ابنته سارة التى لا يحب غيرها.

فكر هانى فى الانتقام منها و أخذ عهداً على نفسه أن يفكر فى وسيلة للانتقام منها فى الفترة القادمة...سيعمل لها عملاً هو الاخر..كلا..انه يريد شيئاً أبشع.. سيلوث سمعتها و يخبر كل من يعرف أن الطلاق تم لأنها على علاقات برجال اخرين و أن سلوكها لم يكن على ما يرام.. ...كلا سيضع رقمها و صورتها على الانترنت مصحوباً بدعوات لقضاء ليال حمراء مقابل مبالغ مالية ...

كلا ...كلا...هناك ما هو أبشع و اسوأ و استمر خياله فى نسج طريقة تلو الأخرى فى كيفية اتعاس طليقته كما أتعسته بأعمالها و سحرها.

أفاق من شروده و خواطره البشعة على صوت الرجل يقول : " ما هذا يا سيد هانى؟ "

أجابه هانى فى قلق: " ماذا تعنى؟"

قال الرجل فى يأس و هو يجلس الى جوار هانى و يضع العمل بين يديه " هذا الذى أعطيتنى اياه ليس بعمل و لا يحزنون , انه ورقة كتبت عليها أرقام و حروف لتبدو كعمل و لكن للأسف فان من كتبها هاو و لا خبرة له بالمرة فالأرقام والحروف لا دلالة لهاعلى الاطلاق "

قال هانى بصوت قوى: " يا بنت العاهرة يا هنومة ..حسابك معى سيكون عسيراً"

قالها و خرج من الشقة منفعلاً للغاية و هو يركض فوق السلالم باتجاه الشارع.

5- حاول هانى أن يفتح عينيه و لكنه وجد صعوبة فى ذلك كما شعر بالام قوية للغاية فى كل أجزاء جسده فأغلق عينيه مرة أخرى و تدريجياً بدأـ حواسه تعود للانتباه فسمع صوتاً أنثوياً يقول " لقد أفاق ".

فتح هانى عينيه ببطء و نظر الى صاحبة الصوت نظرة مشوشة لم يستطع من خلالها تحديد ملامحها و سمع صوتأ اخر لرجل هذة المرة يقول : " حمد الله على السلامة يا أستاذ هانى" .

التفت الى الرجل صاحب الصوت و حاول أن يتغلب على الضوء المباغت الذى أرهق عينيه و بعد لحظات تمكن من الرؤية بشكل واضح فوجد رجلاً طويل القامة رياضى الجسد يرتدى معطفاً أبيض و نظارة طبية و الى جواره فتاة أقصر منه قليلاً ذات شعر أسود معقوص فوق رأسها و ترتدى معطفاً أزرق و طبعاً لا داعى للقول أن ملامح وجههم كانت هى ملامح وجه هانى.

تلفت هانى حوله و أخذ يجول ببصره فى الغرفة فوجد أنه فى غرفة أحد المستشفيات على ما يبدو و أيقن أن من يقفا أمامه هما طبيب و ممرضة.

حاول هانى أن يعتدل فى جلسته و لكنه وجد الاماً رهيبة فى ظهره فصرخ صرخة مكتومة بينما اقتربت منه الممرضة فى سرعة و عدلت من نومته و قالت بلهجة حانية " لا داعى للحركة الان, فمازالت هناك بعض الكسور و الرضوض التى ستحتاج وقتاً لتلتئم ".

استسلم هانى لها و هى تضعه فى وضع مريح و التفت الى الطبيب قائلاً فى قلق واضح : " ماذا بى يا دكتور ؟ ".

ابتسم الطبيب ابتسامة صغيرة: " لا داعى للقلق , أشكر الله على أنها وصلت لحد الاصابة بكسور و رضوض فقط , لقد كان من الممكن أن تنال ضربة فى رأسك أو فى عينيك , ان من ضربوك لابد و أنهم محترفون يا أستاذ هانى, كما أن من أتوا بك الى هنا لو لم يفعلوا لسائت حالتك كثيراً ".

عادت الذاكرة بهانى للموقف المخزى الذى تعرض له , فقد خرج من شقة الشيخ بعد أن اكتشف أنه ضحية نصب من هنومة كالمجنون فعاد الى المنطقة التى تقطن بها هنومة و اتصل بها هاتفياً ليخبرها أنه يريد مقابلتها لأمر عاجل و بالفعل نزلت له هنومة فواجهها محتداً بما قاله له الشيخ و طالبها بنقوده و سبها بألفاظ غاية فى البذاءة , أنكرت هنومة تماماً ما يقول و طلبت منه أن يتكلم باحترام و سبته هى الأخرى فلم يشعر بنفسه الا و هو يصفعها على وجهها و عندها تحول الشارع بأكمله الى معركة من طرف واحد , و أكال له كل رجال و شباب الشارع الركلات و الصفعات الواحدة تلو الأخرى حتى سقط مغشياً عليه و نقله بعض الأشخاص الى المستشفى التى يرقد بها الان.

أفاق من ذكرياته على صوت الطبيب يقول " ستبقى معنا لفترة حتى تتعافى تماماً من اصابتك و لا تقلق فستلقى كل رعاية و عناية, متعلقاتك الشخصية موجودة الى جوارك و سنمر علييك من وقت لاخر لنطمئن على حالتك, بعد اذنك".

أنهى كلامه و ترك الغرفة مسرعاً و تبعته الممرضة التى ابتسمت فى وجه هانى ابتسامة رقيقة تركت أثراً جيداً فى نفسه.

بعد خروجهما أغلق هانى عينيه و بدأ فى البكاء بلا صوت ثم سرعان ما ارتفع صوت بكاءه و تحول الى نشيج و نحيب و أخذ يردد بصوت خفيض: " لماذا يحدث لى كل هذا ؟ أنا لم أؤذى احداً, ما فعلته كان لمصلحتها و لمصلحة الأسرة و لمصلحة سارة " .

ثم تحولت مشاعره من الحزن و الانكسار الى الغضب فى وقت قصير و قال لنفسه: " لابد من أن تنتهى هذة المهزلة و ليلق كل جزائه العادل".

أخذ يبحث عن هاتفه المحمول حتى وجده فى متعلقاته الشخصية التى وضعت بجواره فأخرجه ووضعه فى الشاحن قليلاً و عندما عاد الهاتف للحياة نزعه من الشاحن-رغم ما سببه ذلك من الام رهيبة بظهره و عظامه- و طلب رقم هنومة , لم ترد فألح فى الاتصال حتى ردت ساخرة: " أمازلت على قيد الحياة ؟! " و أطلقت ضحكة رقيعة بصوت عال حتى أنه خشى أن يصل صوتها الى خارج غرفته بالمستشفى فخفض من الصوت قليلاً و قال لها : " أريد منك خدمة و لك ما تطلبين , ألم تقولى لى أنك تفعلين اى شىء؟ ".

أجابت هنومة بدلال : " نعم, أفعل اى شىء و كل شىء, ماذا تريد ؟ "

قال بجدية : " من غير الممكن أن أخبرك بالتليفون كما أننى لا أستطيع أن أغادر المستشفى و الفضل يرجع الى رجالك الأشداء , لابد و أن تأتى لى فى زيارة خاصة و لتخبريهم هنا أنك قريبتى".

صمتت هنومة و لم ترد فقال لها هانى : " لماذا لا تردين ؟ ".

أجابته بصوت بدا عليه التفكير: " أحاول أن أفهم ما هى الخدعة ؟ أنا لست ساذجة يا أستاذ هانى"

أجابها هانى بهدوء و ثقة : " أقسم لك أن الموضوع ليس به اى خدعة على الاطلاق ..هى خدمة سأطلبها منك و سأنقدك ثمنها و هذة المرة لا مجال لأن تخدعيننى يا هنومة".

ضحكت هنومة ضحكة قصيرة و قالت له : " ماذا كنت تظننى سأفعل؟ لم تعثر البنت على اى أعمال بشقة الزوجة و كانت النقود ستطير منى و يعلم الله أننى كنت فى أشد الحاجة اليها فلم يكن هناك بد مما فعلته, اعذرنى يا سيد هانى ..أنت لم تجرب الفقر و الحاجة".

قال هانى بلهجة ناعمة: " عفا الله عما سلف يا هنومة, و الان أخبرينى ,هل تستطيعين أن تأتى لزيارتى غداً فى ميعاد الزيارة السادسة مساءاً؟ ".

صمتت هنومة لثوانى و قالت : " حسناً ..سأكون عندك فى السادسة تماماً".

أملى عليها هانى عنوان المستشفى و رقم الغرفة و أغلق الخط ثم وضع هاتفه المحمول فى الشاحن مرة أخرى و ارتسمت على وجهه ابتسامة أخذت فى الاتساع شيئاً فشيئاً.

6-

طرقت الممرضة باب غرفة هانى فى رقة و انتظرت حتى سماع صوته يأذن بالدخول ففتحت الباب و دخلت قائلة :" مساء الخير, زيارة يا أستاذ هانى ...واحدة من قريباتك تدعى هنومة".

ابتسم هانى فى فرح و قال للممرضة: " دعيها تدخل ".

دخلت هنومة الى الغرفة و الممرضة تنظر الى ملابسها و هيئتها فى ذهول و دهشة فهى لا تبدو قريبة لهانى على الاطلاق ثم أغلقت الباب ورائهما اما هنومة فقد جلست على حافة السرير فى وضع قريب للغاية من هانى و قالت: " حمد الله على السلامة يا باشا".

حاول هانى التغلب على نفوره من هيئتها و رائحتها المقززة التى هى خليط من العرق و السجائر و عطر رخيص للغاية و قال لها بجدية: " اسمعينى يا هنومة ..لقد قلت لى أنك تستطيع فعل اى شىء".

اقتربت أكثر و قالت بنعومة و دلال : " فى الخدمة يا باشا..عليك الأمر و على الطاعة".

أخذ هانى نفساً عميقاً و قال : " أنا أريد ابنتى يا هنومة و سأدفع لك ما تريدين".

تراجعت هنومة للوراء و بان القاق على ملامحها و قالت متسألة : " خطف!! لم يسبق لى أن فعلت ذلك من قبل!" .

قال هانى و قد اقترب منها هو : " و من تحدث عن الخطف , انها ابنتى و أمها سيدة سيئة تقوم بربط الأعمال و اخفائها و من مصلحة البنت أن تتربى مع أبيها , انها خدمة يا هنومة و سأعطيك ما تطلبين."

قامت هنومة من مجلسها و أخرجت سيجارة من سجائر هانى كما هى العادة و أشعلتها دون اى مراعاة لظروف المكان و أخذت تفكر ثم قالت بغتة: " خمسون ألف جنيه".

حدق هانى فيها طويلاً و قال لها : " ماذا ...أنه مبلغ..".

قاطعته هنومة و اقتربت منه بشدة حتى لفحت أنفاسها العطنة أنفاسه :" انها ابنتك الوحيدة يا باشا كما أن الموضوع خطير للغاية و لا يوجد من يقدر عليه سوى هنومة".

قالتها و هى تداعب شعره بأصابعها بخبرة اما هانى فصمت قليلاً و قال:" موافق, الطبيب أخبرنى أننى سأخرج بعد ثلاثة أيام, أريد أن أعود الى المنزل لأجدها هناك, اتفقنا؟ ".

التصقت هنومة به أكثر و قالت له: " ابنتك ستكون فى حضنك عند عودتك الى المنزل ان شاء الله".

*****************************************************************

مستخدماً عكازاً خشبياً دخل هانى يعرج الى منزله و جلس منهكاً على أقرب كرسى ثم أخرج هاتفه المحمول و طلب هنومة التى ردت عليه قائلة: " الباشا وصل للمنزل ..أقول حمد الله على السلامة" .

أجابها هانى : " نعم , أخبرينى متى ستأتين بها؟ " .

أجابت هنومة بدلال و نعومة:" اليوم يا باشا, ساعات معدودة و تكون فى حضن أبيها ".

أغلق هانى الخط و زفر زفرة ارتياح, انه انتقام هائل من طليقته فستحرم من ابنتها و ستربى سارة الصغيرة بين يدى أبيها و ستكبر معه أما مرضه فهو يعتقد أن الحياة مع سارة ستكون كافية لشفائه منه و حتى ان لم يشف فيكفيه العيش مع سارة و حرقة القلب التى سوف تصيب طليقته.

أشعل سيجارة و أخذ يتصفح الخطابات التى وصلت أثناء غيابه فوجد خطاباً من الشركة يخطره بانهاء تعاقده ويطلب منه الحضور لاستلام متعلقاته و مستحقاته.

لم تكن مفاجأة بالنسبة له, فقط هو شعر بالرغبة أكثر فى الانتقام من طليقته التى يراها السبب فى كل ما حل به من متاعب.

نظر الى ساعته, مازالت الثانية ظهراً و هنومة لن تأتى بابنته قبل المساء حتى لا يراها أحد و لا يشعر بوجودها شخص و لقد

اتفقا معاً على أن يتم خطف البنت أثناء خروجها من المدرسة فى الثالثة عصراً و تبقى بمنزل هنومة حتى منتصف الليل فتأتى بها الى منزل هانى فى ظلام الليل.

اذن بامكانه انهاء متعلقاته فى العمل الان حيث أنه سيكون مشغولاً بابنته فى الأيام القادمة و لن يتمكن من تركها وحيدة بالمنزل.

قام من مجلسه و خرج من الشقة ذاهباً الى الشركة التى كان يعمل بها ووصل الى مقر الشركة سريعاً فصعد متكئاً على عكازه محاولاً تحاشى النظرات الى العاملين و دلف الى ادارة الدعاية و الاعلان فحيا السكرتيرة الى كانت سكرتيرته سابقأً- متحاشياً النظر فى وجهها طبعاً- فقامت السكرتيرة مرحبة به: " اهلاً و سهلاً يا أستاذ هانى , حمد الله على سلامتك , تفضل استرح حتى أبلغ بوصول حضرتك".

لم يرد و جلس شاعراً بانكسار رهيب فى أعماقه و فكرة الانتقام فقط هى ما تسيطر على ذهنه.

أشعل سيجارة و أخذ ينظر الى المكتب المقابل له الذى كتب عليه " مدير الدعاية و الاعلان" و تذكر صولاته و جولاته فى هذا المكان و تذكر كذلك نجاحاته المتتاية فى الأيام الخوالى ومع تدفق الذكريات بصورة أكبر تزداد جذوة الانتقام اشتعالاً فى أعماقه.

أرهف السمع فسمع أصواتاً تتحدث بداخل المكتب الذى كان مكتبه و فهم أن بديله لابد و أن يكون قد بدأ عمله بالفعل.

قال فى سره: " أبهذة السرعة وجدوا الشخص البديل؟" و أخذ يعتصر ذهنه مفكراً فيمن يكون بديله, لا يمكن أن يكون أحد موظفيه فكلهم ما زالوا لا يمتلكون الخبرة الكافية لشغل منصب مدير الدعاية و الاعلان كما أن العاملين فى هذا المنصب فى الشركات المنافسة معدودون و هو يعرفهم جميعاً جيداً".

انتبه لدى سماعه صوت الباب ينفتح و يخرج منه مجموعة من الأشخاص , تجنب النظر الى ملامحهم و حاول أن ينظر بطرف عينه اليهم فلم يتعرف على هيئة اى منهم و من خلفهم صوت يقول: " مع السلامة ".

انتفض لدى سماعه الصوت و التفت الي صاحبه فوجد المفاجأة المذهلة التى ألجمت لسانه.

7-
عرفها بسهولة رغم أن ملامحها كانت هى ملامحه , فالجسد الذى عاشره لسنوات طويلة من الصعب أن ينساه بتلك السهولة , تحاشى النظر اليها أما هى فنظرت اليه شذراً ثم عادت الى مكتبه – الذى صار مكتبها – فأغلقت الباب بقوة تاركة اياه وحيداً فى انتظار انهاء متعلقاته.

لم يكن هانى قد تمالك نفسه بعد من الصدمة عندما عادت السكرتيرة بأوراقه و متعلقاته فأنهاها فى سرعة و نزل الى سيارته فركبها مغيباً عن الواقع, نسى تماماً ابنته القادمة اليه بعد عدة ساعات و لم يعد يفكر الا فى طليقته التى دمرت حياته و فى نهاية المطاف احتلت موقعه , لم يدر بكثير من التفاصيل عن الأمر و لكن ما عرفه من السكرتيرة أنهم قد أعلنوا عن خلو المنصب منذ أسابيع و كانوا فى حاجة الى شخص ذو خبرة كبيرة فى الدعاية و الاعلان و شخصية قيادية جيدة أما ما رجح كفتها فهو كونها غير مرتبطة بعمل فى الوقت الحالى فالادارة لم تكن مستعدة للانتظار شهراً اخر أو اثنين فالانتظار كان معناه نهاية العديد من تعاقدات الاعلانات.

أما كيف عينوها رغم سمعتها السيئة و فصلها من عملها السابق فقد ظل لغزاً له لا يستطيع حله.

حاول تناسى الموضوع برمته و تذكر ابنته التى ستصل بعد ساعات فتوقف أمام أحد المولات الضخمة و قضى ما يقرب من ساعتين فى شراء الحلويات و الألعاب و الزينة و هو ما سبب له ارهاقاً كبيراً خصوصاً مع سيره باستعمال العكازات,

أنهى جولته الشرائية ووصل الى المنزل فأعده لاستقبال الابنة على أحسن ما يكون و قضى ما بقى من الوقت فى ترتيب و تنظيف غرفة سارة بنفسه بانتظارها و عند حلول منتصف الليل دق الباب ففتحه هانى و دخل منه فتاتان تحملان طفلة نائمة بين ذراعيهما و من خلفهما دخلت هنومة الى المنزل و على وجهها ابتسامة صفراء ثم قالت: " مبروك عودة ابنتك يا باشا".

اختطف هانى سارة فى لهفة من يد الفتاتان و أخذ يقبلها و يحتضنها فى لهفة و شوق و كأنه نسى تماماً وجود الاخرين و دخل بها الى غرفتها فأنامها فى سريرها الصغير و قبلها عدة مرات فانحدرت من عيونه دمعة حاول التغلب عليها بسرعة ليعود الى الموجودين فى الخارج.

مد هانى يده بالنقود الى هنومة فأخذت تعدها على مهل و على بعد منها الفتاتان تدخنان سجائر غريبة الرائحة وتضحكان فى بذاءة و مجون.

قالت هنومة بعد أن فرغت من عد النقود: " تمام يا باشا و الان اختار هديتك ". و أشارت الى الفتاتين.

قال هانى موجزاً و منجزاً:" لا شكراً , الان تفضلى مع السلامة و اذا احتجت منك اى شىء سأتصل بك".

ودعها فى تقزز منها و من فتياتها و دخل الى غرفة سارة فارتمى فى سريرها و نام فى دقائق و هو يأخذها الى صدره.

فى الصباح الباكر سمع صوت دقات عنيفة على باب شقته فقام مفزوعاً و عندما فتح الباب دفعه مجموعة من الرجال الأشداء قوياً فى صدره فطرح أرضاً و اتجه بعضاً منهم الى الداخل بينما أمسك به الباقون لمنعه من الحركة و عادوا بالطفلة محمولة بين أذرعهم و هى ما زالت تحت تأثير المنوم التى أعطته اياه هنومة وتحدث أحدهم اليه قائلاً : " هل أنت أب ؟تحرم ابنتك من أمها و تخطفها كما اللصوص ؟! لعنة الله عليك".

تذكر أن هذا الصوت سمعه من قبل فنظر الى صاحبه محاولاً التعرف عليه و أخذ يعتصر ذهنه محاولاً التذكر أين سمع هذا الصوت من قبل و أفاق من شروده على صوت رجل اخر يقول: " الفتاة ميتة ".

نزلت الجملة على الجميع كالصاعقة و أفلت هانى من مقيديه الذين تراخوا فى الامساك به تحت وقع الصدمة و اتجه الى الابنة التى تحمل ملامحه و أخذ يهزها فى عنف صارخاً : " سارررررررررررررررة .." و لم يكمل الصراخ حيث عالجته ضربة قوية فى فكه من الرجل الذى تحدث اليه اولاً ثم انقض الرجل على هانى كالمجنون فأخذ يكيل له الضربات و اللكمات و الصفعات فى قسوة و قوة و هو يسبه ولم ينقذ هانى من براثن الرجل الا باقى الرجال الذين أمسكوا به و قال أحدهم: " دعه..سيموت بين يديك".

تركه الرجل و انهار أرضاً الى جوار جثة الفتاة و أخذ يبكى فى حرقة أما باقى الرجال فقيدوا هانى جيداً و حاولو الشد من أزر خال الفتاة الذى استمر يبكى و يصرخ الى جوار جثة ابنة أخته لعدة ساعات.

خاتمة

استرخت ياسمين على الكرسى الممدد فى عيادة الطبيب و سألها عن نوعية الموسيقى التى تفضلها فأجابت ببرود.

قام الطبيب من كرسيه و غير اضاءة الغرفة الى اضاءة هادئة و سرعان ما انبعث من مكان لا تراه ياسمين فهدأت أعصابها و تركها الطبيب كذلك لمدة خمس دقائق ثم بدأ فى مراجعة الاستمارة التى ملأتها قبل دخولها و التى دونت فيها كل بيانتها بدقة شديدة ثم بدأ الطبيب يتلو عليها بيانات الاستمارة فى هدوء و بصوت رخيم: " ياسمين صبرى ..34 عام ..انسة ...تعملين مديرة للموارد البشرية فى شركة كبيرة لم تذكرى اسمها ...تسكنين فى القاهرة الجديدة مع والدتك بعد وفاة والدك منذ تقريباً عشرين عاماً ...لا تدخنين ..لا تشربين الكحوليات و لا المخدرات ...تهوين القراءة و التصوير..دخلك الشهرى يتخطى العشرين ألف جنيهاً مصرياً.هى زيارتك الأولى للطبيب النفسى..لماذا فكرتى فى زيارة طبيب نفسى يا ياسمين؟"

تنهدت ياسمين و قالت: " لأننى أعانى يا دكتور ...أشعر بوخز كبير فى ضميرى و أشعر أننى كنت سبباً مباشراً فى مأساة كبيرة حدثت لعائلة دون أن أقصد و ما قصدت الا المساعدة و لكن ."

بدأت فى البكاء فتركها الطبيب لتهدأ دون تدخل ثم أردفت ياسمين: " لدى صديق منذ أيام الجامعة يدعى هانى ..أنا و هو أصدقاء مقربون جداً و منذ فترة لجأ الى هانى طالباً المساعدة و لم أكن أستطيع الرفض فلقد أٌقنعنى أن بيته على وشك الانهيار اذا لم أتدخل و أنهى عمل زوجته فى احدى الشركات التى لى فيها العديد من الأصدقاء و العلاقات و لقد ساعدته و كنت أعلم أنهم ميسورى الحال و ليسوا بحاجة لمرتب زوجته و أنهم أكثر حاجة الى رعايتها الى ابنتهم سارة و بعدها بفترة علمت أن الطلاق قد تم و أخبرنى هانى أنه بحاجة الى مساعدتى مرة أخرى فى الحصول على بعض الأوراق الهامة من داخل شقة زوجتى فهو يعلم أننى على علاقة بامرأة تدعى هنومة تدير مكتباً للتخديم و قد كنت ساعدتهم من قبل فى ايجاد خادمة لمنزل حماته الكبيرة نوعاً ما فى السن بعد زواج هانى مباشرة فأوصلته بهنومة ظناً منى أننى أساعده و لم أكن أعلم ما سوف يجلبه ذلك من مصائب.

حاولت مساعدة طليقته بعد أن علمت بمدى سوء حالتها النفسية كما شعرت بوخز فى ضميرى من مساعدة هانى فى سرقة أشياء من منزلها فساعدتها على ايجاد عمل كبديلة لهانى الذى صار الاستغناء عنه حتمياً بعد انقطاعه عن العمل لفترة طويلة.

لم أكن أعلم الكارثة التى ستلحق به جراء كل هذا .....

فابنته توفيت بجرعة زائدة من منوم أخذته على يد هنومة و طليقته أصابتها صدمة نفسية و عصبية شديدة بعد وفاة ابنتها أما هانى نفسه فقد انتحر بتناول كمية هائلة من المنومات لظنه أنه كان سبباً فى وفاة ابنته بنفس الطريقة..."

ازداد صوت بكائها ارتفاعاً و و بدت على وشك الاصابة بانهيار كامل فهدأ الطبيب من روعها و قال لها : " ياسمين ..اهدئى و قصى على كل شىء بالتفصيل".

تمت بحمد الله

******************************************************************