5/15/2011

حدث فى الساحل الشمالى

"الأجازة مرفوضة "...باللغة الانجليزية وجدت بريداً الكترونياً من مديرى المباشر رداً على طلب الاجازة الذى أرسلته له منذ عدة أيام......
كظمت غضبى و ضربت على الحروف بسرعة و عصبية بادئاً رسالة جديدة متسائلاً عن أسباب الرفض خاصة و اننى اعمل منذ اول العام بلا أجازات حتى الأجازات الرسمية أعمل فى معظمها و نحن الان فى ديسمبر و أنا محتاج الى راحة لمدة أسبوع واحد فقط لا غير, تراجعت عن فكرة ارسال الرسالة و أشعلت سيجارة و أنا جالس على مكتبى ضارباً بكل قواعد الشركة فى عدم التدخين عرض الحائط ثم سحبت ورقة بيضاء من على الطابعة و كتبت استقالتى فيها و ذيلتها بتوقيعى...نظرت الى جهاز الكومبيوتر..أغلقت كل النوافذ المفتوحة متجاهلاً حفظ التغييرات التى طرأت على الملفات و أغلقته فجأة بدون اعتناء...صعدت الى مكتب مديرى و طرقت باب مكتبه ثم دخلت و وضعت الورقة أمامه بلا تردد...قرأها و صدم من ردة الفعل العنيفة و نظر الى ملياً فواجهته بعينين ثابتتين موجهتين الى عينيه مباشرة , حاول لفترة اقناعى بالعدول عن الاستقالة و لكننى كنت مصمماً بشدة.
" تم قبول الاستقالة " فى النهاية كتب هذة الكلمات و وقع على الورقة ..أنهيت اجراءات اخلاء طرفى من الشركة فى ساعة على الأكثر و نزلت الى الشارع أستنشق أنفاس الحرية بسعادة لم أشعر بمثلها من قبل...
عدت الى المنزل ...فتحت حقيبة السفر وملأتها بالملابس و الكتب ثم نزلت مرة أخرى عازماً على الذهاب الى الساحل الشمالى لتصفية ذهنى من كل الأحداث الأخيرة التى مرت بى بدءاً من تركى ل"مروة" خطيبتى بعد مشاكل لا حصر لها و حتى استقالتى الانفاعلية صباح اليوم...
كانت الساعة حوالى السابعة مساءاً عندما وقفت أنظر الى اللافتة المكتوب عليها الاسكندرية – الساحل الشمالى ..وجدت نفسى سعيداً للغاية..توقفت عند محطة البنزين..ملأت السيارة بالبنزين عن اخرها و اشتريت قهوة فرنسية بالحليب من المتجر الملحق بمحطة البنزين كما اشتريت ما يلزمنى من الطعام و الشراب و ما يمكن أن يكفى لاسبوع على الأقل و ايضاً ابتعت كتاباً لجابرييل جارسيا ماركيز فأنا أحب قراءة تفاصيل ماركيز على البحر ...
عدت الى السيارة و فتحت موسيقى هادئة ل (لينا شماميان ) و أخذت أرشف من القهوة و أسحب أنفاساً من السيجارة و أنا أقطع بسيارتى الطريق الخالى تقريباً من السيارات و كدت أصل الى ذروة السعادة مع برودة الجو و اكتملت سعادتى بسقوط أمطار خفيفة سرعان ما تحولت الى أمطار قوية...
قاطعنى رنين هاتفى المزعج جداً فأغلقته دون أن أعرف هوية المتصل و  دفعته بعيداُ الى تبلوه السيارة....رفعت الصوت أكثر لأصل لحالة من التوحد مع النفس و الكون لم أصل اليها من قبل...
أخذت أكثر من 4 ساعات فى الطريق- حيث أننى تعمدت أن أسير ببطء شديد مستمتعاً بالطريق- حتى وصلت الى الساحل الشمالى و صارت القرى ممتدة على يمينى أمام البحر فى مشهد مهيب ...دخلت الى بوابة احدى القرى و بعد دقائق ظهر شبح رجل أمن خارج من داخل كشك مغلق, سألته عن السمسار الموجود فى القرية و أخبرنى انه لا يوجد غيره فى القرية كلها ..طلبت منه شاليه مواجه للبحر..أخبرنى أن القرية كلها خالية و يمكننى اختيار الشاليه الذى يعجبنى ..اخترت شاليهاً بعيداً عن مجموعة الشاليهات على الرغم من أنه لا يوجد أحد بالشاليهات الأخرى الا اننى أحببت أن أكمل احساسى بالانعزال ...
أفرغت حقيبتى و ارتديت ملابس ثقيلة نظراً لبرودة الجو , فتحت اللاب توب و شغلت كل أغانى فيروز  و تركتها تعمل عشوائياً ثم فردت ظهرى أمام النافذة المغلقة مواجهاً البحر ...لم تمض دقائق الا و أصبح الجو مرعباً بكل ما تعنيه الكلمة من معان فقد اشتد المطر فأصبح سيولاً شديدة و هز النافذة صوت الرعد القوى كما أضاءت السماء الشحنات الكهربائية للبرق ..أشعلت سيجارة و أخذت أنفخ الدخان متذكراً مروة و أيامنا الأولى معاً قبل أن تتحول لكائن برجوازى متعفن كل غرضه الحصول على أكبر مكاسب مادية من صفقة زواجنا.. أغلب الظن أن مروة كانت تفعل ذلك مدفوعة من أمها الشيطانة و لكن هذا لا يهم , المهم أنها لم تكن كما كنت أظنها فى بداية العلاقة ..
" يا مايلة على الغصون عينى ..سمرا يا حورية .." استمرت فيروز فى الغناء رغم كل ما كان يحدث من الاعيب الطقس.. و لكم منذ متى تحمل هذة الأغنية ايقاعاً قوياً مثل هذا ...أم أن هذا الصوت لا علاقة له بأغنية فيروز ..قمت من مجلسى و خفضت صوت فيروز قليلاًُ فتيقنت أن الطرقات قادمة من باب الشاليه...اللعنة على فرد الأمن المغفل يظن أننى سأسليه و أنا القادم الى هنا من أجل أن أكون وحيداُ تماماً ...
فتحت الباب و ذهلت مما رأيت..رأيت امراءة ..كلا هى أصغر قليلاُ من امراءة فمن الواضح أنها لم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد..قمحية اللون ..شعرها الأسود المبتل من جراء المطر أجمل ما فيها..عيونها عسلية جذابة ..ملامحها جيدة لا يمكن القول انها جميلة و لكن وجهها به شىء لا بأس به من الجاذبية...من هى ؟ هل هى فتاة ليل ..و لكنها لا تبدو كفتاة ليل و لكن من قال أن فتيات الليل يبدون كفتيات ليل...
"ممكن أدخل ؟" قطعت حبل أفكارى بمقص كلامها فوجمت ثم أفسحت لها لتدخل الى الشاليه..لو كانت فتاة ليل فأنا لا أمانع من قضاء الليل بجوارها..ربما هى من ستجعل هذة الرحلة مثالية و اذا كانت ليست بفتاة ليل فأنا لا أملك ما يسرق على اى حال..
"أنا اسفة اوى بس الجو صعب اوى بره ..ممكن أقضى الليلة هنا فى الشاليه ؟؟ " ....اه اذا فأنت فتاة ليل و لكنك تملكين طريقة جديدة فى الوصول الى الزبون ..لابد ايضاً أن رجل الأمن يملك موهبة العمل كقواد بشكل مبتكر رغم أن مظهره لا يوحى اطلاقاً بذلك ...
"ممكن طبعاً ...بس نتعرف الأول..اسمك ايه ؟ "
" ليه طلب تانى أخير ..ممكن متسألنيش و لا سؤال..لحد لما أمشى الصبح ؟؟ "
" زى ما انتى عايزه ..تشربى كابتشينو ؟ "
"ايوه ...فانيليا بلز ..."
قمت فأحضرت لها طلبها و أعددت واحداً مماثلاُ لى ..عرضت عليها سيجارة فقالت انها لا تدخن ..أشعلت لنفسى سيجارة و تفحصت ملابسها المبتلة و ابتسمت بخباثة و قلت لها " مش حتغيرى هدومك المبلولة دى..."
" لأ ..دلوقتى تنشف .." قالتها و نظرت الى نظرة حادة  معناها " لا تفكر فى الاقتراب منى فأنا لست كما تظن " ..
أحبطت من كونها ليست فتاة ليل و لكننى فى نفس الوقت وجدت نفسى سعيداً فداخلياً لم أكن أرغب فى فعل أى من المحرمات اطلاقاًُ ...
رفعت صوت فيروز و عدت الى جلستى  و أنا أنظر اليها ..كانت شاردة مع قصيدة فيروز " سكن الليل " ..
" انت ايه اللى جابك هنا فى الوقت ده و الجو ده ؟ " قالتها و هى تبتسم لتخفف من التوتر الذى طرأ على الجلسة مؤخراً بعد كلماتى الأخيرة
" المفروض ان أنا اللى أسأل السؤال ده ..بس بما انى مش حسأل خالص فممكن أجاوبك  علشان منقعدش ساكتين ..بصى يا ستى ..أنا لسه سايب خطيبتى من أسبوع علشان طلعت بنى ادمه مادية و طماعة و النهاردة بس استقلت من شغلى علشان مفيش اى تقدير لأى ظروف ..محتاج أقعد لوحدى فترة أصفى فيها دماغى لحد لما انتى طبيتى عليا ...بس "
"امممم...و انت فاكر ان هروبك من مشاكلك ده حل ..ابداً بالعكس أنت لازم تواجه مشاكلك مش تهرب منها .."
" مين قال انى بهرب ..انا بس محتاج أفصل ..."
"طيب تسمحلى أعملنا العشا...لو عندك عشا اصلاُ .."
" تسمحيلى نعمله احنا الاتنين مع بعض .."
" اوك ياللا .."
قمنا لاعداد العشاء الذى كان بسيطاً بالطبع و معه كوبان من الشاى الساخن ..تناولنا العشاء معاًُ و بدأت الألفة بيننا تزداد مع تناول الطعام ..حقاًُ ان الكلام السائد عن العيش و الملح حقيقياُ ..
قامت فرفعت الأطباق و الأكواب و ذهبت بهم الى المطبخ..لم أعارضها و تركتهت تغسلهم ثم عادت الى وجدتها مبتسمة و تنظر الى برقة و أنا أدخن سيجارة رقم مليون و أرشف الشاى ببطء ...
فجاة انقطع التيار الكهربى و اشتد البرق و الرعد قوة مع احتداد شدة السمع ..
"اقعدى ..ان شاء الله شوية و يجى النور .."
"بالعكس ..أنا مش عايزاه ييجى ..مش عايزاك تشوفنى علشان أنا مش مطمنالك اصلاُ "
"حرام عليكى..ده احنا بقالنا ساعة مع بعض و لو واحد غيرى ما اظنش كان فضل محترم زييى كده .."
رأيت ابتسامتها رغم الظلام و ساد الصمت طويلاً و استمرت فيروز تنشد " فى شىء عم بيصير " و نحن الاثنان نشعر أن فى شىء عم بيصير فعلاً ...
اقترب الفجر من البزوغ...فسألتها  " تحبى تنامى فى الأوضة جوه  شويه و أنا كده كده حاقعد أسمع فيروز هنا لحد لما اللاب توب يفصل "
" لأ ..مش عايزه أنام ..أنا عايزه أقعد معاك شويه قبل لما أسيبك ...."
سكت و عدت الى التدخين مرة أخرى و قمت أتمشى و فتحت باب الشرفة...كان المطر قد توقف و معه ايضاًُ صوت فيروز ..يبدو أن البطارية قد أصبحت خالية تماماً..
بعد ثوان سمعت صوتها تغنى "نحنا و القمر جيران " ..كان صوتها عذباًُ و جميلاً ...عدت الى جوارها و نمت على الأرض تحت قدميها بينما استمرت هى فى غناء كل الأغانى التى أحبها لفيروز حتى طلعت الشمس ...كنت قد وصلت الى قمة النشوى و المتعة عندما بدأت تغنى " أنا صار لازم ودعكن " ...فهمت انها أغنيتها الأخيرة فقمت من مكانى و نظرت الى عينيها طويلاً فوجدتها تبكى و لم أعرف سبباًُ لبكائها و لكننى أنا الاخر وجدت عينى على وشك أن تدمع..
أنهت أغنيتها فقامت و ارتدت حذائها و مدت يدها لى للمرة الأولى فصافحتها ..سحبت يداها بسرعة ....دخلت الى غرفتى سريعاُ أخرجت كتاب لأحلام مستغانمى أحبه كثيراُ فأهديته لها و قلت " علشان تفتكرى اليوم ده بيه "
" أنا اصلاُ عمرى ما حانسى اليوم ده " أجابتنى و الدموع تترقرق فى عينيها العسليتين ثم أخذت الكتاب و ابتسمت برقة
" مش حاشوفك تانى ؟ " سألتها و أنا أغالب دموعى مما جعل صوتى يخرج مختنقاُ
" لو ربنا عايز أكيد حنتقابل تانى ..." أجابتنى و هى تتحاشى النظر الى عينى مباشرة
" مش حاعرف اسمك حتى ؟ "
هزت رأسها نفياُ و خرجت من باب الشالية و أغلقته ورائها و تركتنى واقفاُ مكانى أبكى فى حرقة مثل الأطفال



No comments:

Post a Comment