7/13/2011

السجينة

ساعة مبكرة جداً من صباح احدى أيام الربيع و الجو –حقاً –بديع, فالشمس لم تشرق بعد و نسمة لطيفة من الهواء تجرى فى الجو غير مسرعة , رائحة الزهور المتفتحة تملأ المكان , و أصوات تغريد الطيور لا تتوقف منذ أن بدأ النور فى الظهور..الليل يذهب الى سبات عميق و النهار يستعد للاستيقاظ مبكراً كعادته التى لم يخلفها ابداً , القمر ما زال يتوسط السماء مبتسماً ابتسامة منهكة من جراء عمله طوال الليل و يتثائب استعداداً للذهاب للنوم هو الاخر.
الكل فى انتظار اطلالة الشمس لتضفى على العالم مزيداً من الدفء و النور كما عودتنا.
يركب سيارته و يدير المحرك , ينبعث صوت موسيقى هادئة من المسجل و لكنه يغير الأغنية و يبحث عن موسيقى أو أغنية تتلائم مع وقت ما بين الفجر و الشروق, يعثر على المقطوعة الموسيقية المناسبة, ها هو المحرك قد أصبح أكثر سخونة فينطلق بسيارته على مهل فى شوارع القاهرة الخالية الا من بعض التلاميذ المنتظرين لسيارة المدرسة و بعض المواطنين الكادحين الذين يستعدون للذهاب الى السعى من أجل الرزق,
ينظر فى ساعته , انها السادسة و الثلث, يتوقف أمام البوابة مباشرة و يترجل من السيارة ,يفتح شنطة السيارة و يخرج حقيبة كبيرة يحملها على كتفه فى نشاط متجهاً الى البوابة , يلقى تحية الصباح على رجل الأمن المسكين الذى أوشكت ورديته على الانتهاء  و يدلف الى الداخل.
يمر على الحدائق الغناء و يستمتع برائحة الياسمين النفاذة الذى يملأ المكان.
يصل الى مكانه المفضل فى طرف الحديقة و يجلس , يأتى اليه النادل فيطلب منه قهوة و زجاجة مياة و بعد انصراف النادل يخرج لوحته من الحقيبة الكبيرة التى يحملها و يفردها أمامه و ينظر اليها, لقد أوشكت اللوحة على الانتهاء ,
يبتسم راضياً عن عمله و يحرص على ضبط اللوحة فى مواجهة شجرة الكافور الضخمة التى يستظل بها حتى لا يراها أحد الا هو و ينتظر قدومها.
ما زال على موعدها أكثرمن ربع ساعة , يأتى النادل بالقهوة و الماء فيجلس فى صمت تام يرشف القهوة و ينظر فى ساعته كل دقيقة بانتظار قدومها.
انه اليوم العاشر على التوالى الذى يأتى فيه الى النادى فى هذا الوقت المبكر جداً و لكن اليوم هو أكثرهم تبكيراً.
منذ أن أتى فى المرة الأولى و لمحها و هى تجلس فى الحديقة و قد خطفته تماماَ , شدته ملابسها الزاهية الألوان و شده شعرها الأسود الطويل الذى ينسدل فوق كتفيها فى نعومة و سلاسة, أعجب باستدارة وجهها و بعينيها السوداوتين اللتان تشعان سحراً و جاذبية.
منذ ذلك اليوم و هو يحرص على أن يأتى فى ميعادها فى تمام السابعة صباحاً ليجلس فى هذا المكان حيث يتمكن أن يراها جيداً ثم قرر فى اليوم الثالث أن يرسمها و اختار هذا الوضع حتى لا تلاحظ هى و لا يلاحظ أحد ممن فى النادى ما يرسمه.
يرشف رشفة أخرى من فنجان القهوة و يتذكر اليوم الخامس عندما تلاقت عيناهما فابتسم سريعاً ليدارى الاحراج و ردت هى بابتسامة مشرقة جميلة شجعته على أن يفتح ابتسامته أكثر فبدا كالأبله , دقائق و تلاقت عيناهما مرة أخرى فابتسم مجدداً و أشاحت هى بوجهها ضاحكة بلا صوت.
كانت الاشارة أن يتقدم و لكنه لم يفعل, ظل ثابتاً فى مكانه يواصل رسمها حتى ترحل فيرحل بعدها على وعد صامت بلقاء فى الغد.
صارت العادة أن يتبادلا التحية فى كل صباح بابتسامة و هزة رأس و كان يعمل بهمة فى لوحتها حتى أنه أوشك على الانتهاء منها فى وقت قياسى.
اليوم حضر مبكراً أكثر لأنه ينوى أن يكون اليوم مختلفاً فهو لن يكتفى بالابتسامة و هزة الرأس, اليوم سينهى لوحته و سيقدمها لها هدية و سيتعرف عليها .
اليوم ليس كالأيام السابقة , اليوم سينقل جلسته الى جوارها و هو واثق أنها لن تمانع.
نظراتها و ابتسامتها تقول أنها لن تمانع.
لقد قرر أن ينسى كل شىء و يتقدم بلا تردد و لا خوف.
نظر الى ساعته فوجدها السابعة تماماً, ستدخل الان. ........
مر الوقت و لكنها لم تدخل ...لم تتأخر و لا مرة فى الأيام السابقة, ماذا حدث اليوم ؟
طلب من النادل قهوة أخرى و أخذ يحول بصره فى عصبية و عبثية بين الساعة و مدخل الحديقة.
السابعة و الربع ..النادل يأتى بالقهوة ..يلومه بخشونة على التأخير- تـأخيرالقهوة بالطبع- فيذهل النادل من التصرف الغير متوقع و يعتذر فى ارتباك و ينصرف.
السابعة و النصف ....صارت الحياة جحيماً ...لابد و أن يعرف أين هى الان و لماذا لم تأت ...أصبح متوتراً لأقصى درجة ثم هدأ قليلاً و استغفر ربه و دعاه أن تأتى الان و الا يكون مكروهاً قد أصابها....تمر الدقائق فيعود توتره أقوى من الأول.
الثامنة الا ربع ....يقوم منفعلاً من مكانه متجهاً الى بوابة النادى, يذرع الطريق جيئة و ذهاباً أكثر من مرة و يتصبب عرقاً من التوتر و من الحركة بعصبية ثم يعود للجلوس مكانه مرة أخرى.
الثامنة تماماً ....يفكر فى الانصراف حتى لا يتأخر على عمله ثم يتراجع عن الفكرة و يقرر البقاء, يطلب قهوة ثالثة و يحاول الاسترخاء و الكف عن التفكير فى الأمر.
الثامنة و ثمان دقائق بالضبط ....ها هى ..يراها قادمة من مدخل الحديقة ..ترتدى بلوزة بيضاء و جوب سوداء طويلة و فضفاضة ووشاحاً أسود فى أبيض ..شعرها تحركه نسمات الهمواء و ابتسامة وجهها أكثر اشراقاً من كل يوم. و لكن هناك تغيير اليوم فالخادمة التى ترافقها كل صباح لا ترافقها اليوم بل يرافقها رجل, رجل طويل القامة  ووسيم..وجهه مبتسم وملابسه أنيقة للغاية ولغة جسدهما تقول أنهما فى علاقة حب.
ها هوالرجل يسحب كرسياً لنفسه و يجلس أمامها على مسافة قريبة جداً , يمسك يدها ويهمس لها بكلام لا يسمعه سواهما.
يبدو أن الفتاة  السجينة على وشك التحرر من سجنها للأبد ويبدو ايضاً أنها ليست من نصيب صديقنا.
من الواضح أنها عثرت على الشخص الذى يرضى بها و يحبها رغم ما بها , ملامحه تقول أنه يحبها حقاً و لم يهمه اى شىء اخر.
يحدق فيهما مدهوشاً لفترة ثم يوقن أنه لا جدوى من البقاء, صامتاً حزيناً يقوم من مكانه و يمر من أمامهما فيسمع ضحكاتهما ممزوجة معاً فتخرج كأنها صوت واحد, يبدو أنها لا تراه اصلاً أو تتظاهر بذلك ,ينظر اليها نظرة أخيرة و هو  يحمل لوحته فى يد و الشنطة الفارغة فى يد أخرى.
يخرج من باب النادى ويركب سيارته و فى المقعد بجواره لوحة ...
لوحة لفتاة جميلة فاتنة تجلس على كرسى متحرك وتقرأ كتاباً .
*************************************************************




No comments:

Post a Comment