7/11/2011

الصندوق

الصندوق
الشتاء قاس هذا العام , عواصف الرياح القوية الهادرة لا تتوقف و لو للحظة, السماء ملبدة بالغيوم و السحب السوداء تستعد لارسال كل محتوياتها الى الأرض فى اى وقت, فقط هى تتحرك فى انتظار اشارة البدء , الشمس تختفى تماماً من فوق هذة البلدة و تعلن بيتاها الشتوى منذ عدة أيام, الحركة فى الشارع قليلة رغم أننا فى منتصف النهار.
وحده أمام البحر الهائج يجلس منتظراً اللا شىء, يتطلع الى البحر فى لحظات غضبه الغير مسبوقة ويتأمله و هو يقذف بأمواجه بعيداُ الى الشاطىء و يطالع- فى الوقت نفسه- كتاباً قرأه مرات عديدة , من المؤكد أنه كتاب جيد و لكنه ليس أفضل الكتب فأفضل الكتب تلك التى لم نقرأها بعد و أجمل النساء تلك التى لم نراها بعد و أحلى اللحظات تلك التى لم نعشها بعد .
هكذا الانسان دائماً ما يحيى بالأمل فى الأفضل و الا قتل فيه الطموح و صار مجرد شبح انسان أو كما قال نزار قبانى ذكرى انسان , يعزى نفسه بأن الأفضل قادم و لذا فهو يضيع على نفسه فرصة الاستمتاع بالأفضل الحقيقى لأنه عندما يعيش أحلى اللحظات فهو لا يعلم أنها أحلى اللحظات و عندما يحب أفضل النساء لا يراها أفضل النساء و يظل منتظراً للأفضل دون أن يدرك أنه بالفعل يعيش الأفضل و يفقده بينما هو منتظراً الأفضل.
الكل فى حالة انتظار: الشمس نائمة تستريح خلف السحب بانتظار أمر الاشراق , السحب تتحرك بانتظار ارسال المطر , العواصف تعمل بأقصى قدرة بانتظار أن تعود للراحة, هكذا الحياة , انتظار فانتظار فانتظار.
وحده البحر يبدو أنه لا ينتظر شيئاً , هو يروح و يجىء منذ بدء الخليقة و لا يوجد جديد لديه , يستقبل الزوار من البشر و السفن و ينعم بصحبة سكانه من الأسماك و غيرها دون ملل.
عجيب هو البحر , يبدو أنه الوحيد الغير منتظر فى المشهد كله او قد يكون مثله, منتظر اللا شىء, فقط هو جالس فى مكانه بانتظار الحدث الذى لا يعلمه و الذى لم يحدث و يبدو أنه لن يحدث, على الأقل سيحاول أن يكون أكثر أملاً فاذا كان البحر الموجود منذ ملايين السنين لم يفقد الأمل و ما زال منتظراً , اذاً فمن الواجب عليه الا يفقد الأمل هو الموجود فى الدنيا منذ عشرات السنين فقط لا غير.
أضحى المشهد لوحة صماء لا حركة فيها و لا تغيير حتى قطع البحر هذا الصمت بأن قذف صندوقاً تجاه الشاطىء وقع أمامه بالضبط.
لم يحرك ساكناً , فقط نظر الى الصندوق فى لا مبالاة وواصل قراءة الكتاب فى صمت و الصندوق ما زال ملقى أمامه ككلب نائم تحت قدمى صاحبه.
أنهى الفصل الأخير من كتابه فوضعه بجانبه و مد يديه ملتقطاً الصندوق و أخذ يتطلع اليه فى اندهاش, فالصندوق يبدو ثميناً , صحيح أنه ليس كبيراً و لكن ثقل وزنه وزخارفه و كذلك قفله المغلق يعطون له طابعاً مشوقاً مغرياً بفتحه.
هم بفتحه فاذ به يسمع صوت أقدام من خلفه, التفت فوجد امراءة يبدو من مظهرها أنها تكبره بأعوام قليلة و ترتدى معطفاً ثقيلاً من الفرو يلتصق بجسدها و كوفيه متعددة الألوان و يطير شعرها بفعل الرياح من خلفها , ليست جميلة على الاطلاق أو هكذا تبدو للوهلة الأولى , اقتربت منه و استأذنته فى الجلوس بجواره , لم يرد و لكنها جلست بجواره, تطلع اليها بنظرة أكثر تأنياً فاكتشف جمال و استدارة جسدها كما تأكد من أنه من الممكن أن تكون جميلة بعض الشىء او بها جاذبية ما.
طلبت منه الصندوق بأدب فأعطاها اياه , أمسكته بيديها و تطلعت الي الصندوق ثم نظرت اليه و سألته : خمن ماذا يوجد بداخله ؟ , هز رأسه بمعنى أنه لا يعلم فضحكت فى نعومة و اغراء , اكتشف أنها أجمل قليلاُ مما بدت له فى المرة الأولى.
طلبت منه أن يلعبا معاً لعبة مسلية, سيخمن كل منهما ماذا يوجد فى الصندوق و من سيكون تخمينه صحيحاً سيصبح الصندوق ملكاً له.
وافقها مندهشاُ من نفسه لأن الصندوق ملكه فى الأصل و بدأت هى فى التخمين قائلة :
أعتقد أن الصندوق بداخله مقتنيات بحار قديم غرقت سفينته فى الماضى فترك أثمن مقتنايته فى هذا الصندوق مع رسالة وداع لحبيبته مكتوبة بخط مرتعش.
ضحك منها و اتهمها بالرومانسية المفرطة و ذكرهها بأن الفائز فى الرهان سيحصل على ما بداخل الصندوق و لذا فعليها التركيز على أشياء أكثر قيمة و قال لها : أنا أخمن أن ما بداخل الصندوق هو مجموعة من العملات الذهبية و الفضية و بعض النقود الورقية و بعض المصوغات.
ضحكت هى الأخرى و اتهمته بالمادية الشديدة ثم لمعت عيناها دالة على وجود فكرة جديدة فقالت له: أنا و أنت قد خمنا ما بداخل الصندوق و الان ما رأيك أن يقول كل منا للاخر ماذا يتمنى أن يكون بداخل الصندوق و ليس ما يتوقعه؟
وافق سريعاً فالأمر أصبح مسلياً بحق , طلبت منه أن يبدأ هو التمنى فسكت كثيراُ و أخذ يفكر, يا ترى ماذا يتمنى أن يكون بداخل الصندوق, هل يتمنى أن يكون ما خمن بداخله مجوهرات أو نقود؟  أم أنه يتمنى شيئاُ اخر ؟ احتار كثيراُ و فى النهاية أخبرها أنه يتمنى أن يجد بداخل الصندوق صديق.
احمر وجهها خجلاً فقد فهمت ما يرمى اليه بدعابته و أخذت هى الأخرى تفكر لمدة لم تطول كثيراً ثم قالت أنها تتمنى أن يكون ما بداخل الصندوق طفل.
ابتسم لبراءاة أفكارها و لغريزية أمومتها , ثم قررا أن يفتحا الصندوق , طلب منها أن تفتح هى الصندوق و هى طلبت منه أن يقوم هو بفتحه , ثم قررا أن يقوما معاً بفتح الصندوق.
أصدر الله عز وجل اشارته للسحاب فأرسل الى الأرض مطراً غزيراً و ارتفع صوت الرياح و ازداد هياج البحر أكثر و انتقل الكل من حالة الانتظار الأبدى الى حالة الفعل, سريعاُ أمسك بيدها و قد صارت فى نظره أجمل نساء الكون و معاً قاما بسحب قفل الصندوق فانفتح الغطاء الى اخره و نظر كلا منهما نظرة طويلة الى داخل الصندوق ثم تبادلا النظرات معاً و من وراء السحب الممطرة بدأت الشمس تستعد للقيام من غفوتها و ارسال أشعتها اليهما
******************************************************************




No comments:

Post a Comment