9/26/2011

ساعات عمل


الساعة تقترب من الخامسة مساءاً , الشمس تهبط باتجاه الغروب و يوم العمل على وشك الانتهاء.
يستيقظ من نومه متعباً و يهبط من سريره متجهاً الى دورة المياه, يغتسل و يرتدى ملابس العمل, تضع زوجته أمامه وجبته التى لا يعرف ان كانت افطاراً أو غذاءاً. يتناول طعامه البسيط- الذى يتكرر يومياً- فى استمتاع , ينتهى من طبق الفول عن اخره و يحتسى الشاى مصدراً صوتاً عالياً و يقوم من مجلسه و يقول بصوت مسموع : " توكلت على الله.و يلتفت ناحية زوجته قائلاً: السلام عليكم " ..أجابته الزوجة : " فى رعاية الله ".

الساعة تقترب من السادسة مساءاً , الشمس غربت تماماً و بدأت ساعات الليل فعلياً, الشوارع تبدو أكثر ازدحاماً فالكل عائد من عمله و الساعة ساعة ذروة.
يهبط من الأوتوبيس المزدحم بصعوبة و يسير بمحاذاة الرصيف الذى امتلأ بالبشر القادمين  و الذاهبين, يتوغل فى احد الشوارع الجانبية  و يبدأ الازدحام فى الانخفاض تدريجياً حتى يصل الى طريق شبه خال على ناصيته كلب متسكع, يقترب الكلب منه متحفزاً ثم يشم رائحته فيعرفها و يعود كامناً الى ناصية الطريق.
يستمر فى السير فى الطريق المقفر حاملاً شنطة بلاستيكية قديمة فى يده مدندناً لحناً قديماً لأغنية قديمة من التراث المصرى غير عابىء بطول المسافة و وحشة الطريق.


الساعة تقترب من السابعة مساءاً  و المبنى الشاهق يبدو ظاهراً من على بعد و ليس أمامه الا أتوبيس وحيد.
يصل الى المبنى  و يلقى التحية على سائق الأوتوبيس الوحيد فيبادله الاخر التحية و يعطيه جرائد اليوم المنقضى و أثناء ذلك يمتلىء الأوتوبيس بالركاب من العاملين و بالمصنع فيلوح السائق بيديه و يتحرك بالأوتوبيس الذى يختفى بعد لحظات غارقاً فى ظلام الشارع الطويل.
يدخل الى غرفته الضغيرة , يفتح النافذة المطلة على الشارع و على مدخل المصنع. يقترب من التليفزيون القديم الموجود فى ركن الغرفة , يفتحه فيجد فيلماً عربياً قديماً يذاع للمرة الرابعة بعد الألف, يجلس ليتابع الفيلم فى استمتاع- حقيقى- و يخرج الجرائد التى أخذها من سائق الأوتوبيس فيفتحها على صفحة الرياضة و يبدأ يقرأ الأخبار فى تؤدة و لكن بنهم.

الساعة تقترب من التاسعة مساءاً , الفيلم العربى فى مشهد النهاية حيث يقترب البطل من البطلة و يلزق فمه فى فمها بطريق حيوانية بشعة – كانت هى المألوفة فى هذا الزمان - و تنزل كلمة النهاية.
يقوم من مجلسه و يبدأ فى اعداد كوب من الشاى الثقيل على الموقد الصغير و هو يغنى أغنية لأم كلثوم.. فجأة تنطفأ أنوار المكان و يسكت التلفاز, يستمر هو فى ترديد الأغنية بنفس الطريقة و كأن شيئاً لم يحدث, بعد دقيقة كاملة أو دقيقتين, يمسك بشمعة من على الكومود أمامه مهتدياً بضوء الموقد الصغير و يشعلها.
يمسك الشمعة فى يده و يبحث عن اخريات فيشعلهن فيصير المكان مضيئاً.
يوزع الشمع فى جنبات الغرفة المختلفة و يبحث داخل شنطته البلاستيكية عن الراديو الترانزستور و يجده سريعاً فيفتحه على محطة أم كلثوم و يسترخى فى جلسته لاحتساء الشاى.

الساعة تقترب من الحادية عشر مساءاً , أم كلثوم تختم الأطلال بعد ساعتين من الغناء المتواصل و التيار الكهربى يعود الى الغرفة.
يستيقظ من غفوته القصيرة و يقوم لاعداد كوب اخر من الشاى مستغلاً اضاءة التيار الكهربائى , يفتح الشنطة البلاستيكية و يستخرج بعض ساندويتشات الجبن القديم الذى يأكله يومياً و رغم ذلك لا يمل منه ابداً, التلفاز يذيع برنامجاً غاية فى الملل يتحدث عن كيفية الحفاظ على الشباب للأبد , يتابعه باهتمام و يحاول فهم ما تعثر عليه فهمه من كلام الطبيب – ضيف الحلقة- فيفشل, ينظر الى نفسه فى المراة , انه فى الثلاثينيات من عمره و لكنه يبدو كرجل يبلغ من العمر خمسين عاماً ,يتسائل  لماذا لا يتحدث الطبيب عن تلك المشكلة بدلاً من الحديث عن العكس؟


الساعة تقترب من الواحدة صباحاً , انقطاع التيار الكهربائى مرة أخرى و لكن الشمع الذى وزعه جيداً يضىء الغرفى بكفاءة ,و صمت تام يطبق على المكان و خارج الغرفة سيارة صغيرة حديثة تستعد للوقوف أمام باب المصنع.
يفيق على صوت السيارة فيستل سلاحه و يخرج من الغرفة باتجاه السيارة التى يلمح فيها شاب و فتاة, الشاب يبدو فى العشرينيات من العمر أما الفتاة- الى ترتدى ملابس خفيفة جداً- فمن المستحيل أن تكون قد بلغت العشرين بعد , يزول توتره قليلاً و يقترب من السيارة.
يرى الشاب ملابسه و هو قادم باتجاهه فيزول توتره هو الاخر و يخرج عشرين جنيهاً و يفتح النافذة فتحة قليلة جداً تكفى فقط لاخراج ورقة النقود , ينظر الرجل اليه فى اندهاش و يطلب منه أن يفتح النافذة و يكلمه.
يفتح الشاب النافذة فيسأله الرجل " ماذا تفعل هنا فى هذا الوقت ؟ " , يجيبه الشاب ساخراً " أرى أنك تمتلك غرفة فاخرة , ما رأيك أن تؤجرها لنا ساعة مقابل خمسون جنيهاً ؟ "
تمالك الرجل أعصابه و استغفر ربه و قال " ارحل من هذا المكان فوراً "
ارتبك الشاب و بدأ يشعر أن خطته التى أعدها لقضاء ليلته سوف تفسد بفعل هذا الرجل السخيف فقال له محاولاً محاولة أخيرة " حسناً ...خذ خمسون جنيهاً و سوف نترك لك غرفتك طوال الليل " ..انفعل الرجل عليه قائلاً : " اذا لم ترحل الان فابمكانى تكسير رأسك و رأس العاهرة الجالسة بجوارك" .
ارتبك الشاب جداً و خصوصاً بعد وصف الفتاة بالعاهرة و أغلق النافذة حتى لا يسمع المزيد من الشتائم اما الفتاة فتناولت قميصاً لها ملقى على المقعد الخلفى من السيارة و أسرعت باراتدائه و كأنما أحرجها وصفها بالعاهرة, اما الرجل فالتفت عائداً الى غرفته بعد أن تأكد أنهما سيغادران المكان.
داخل السيارة التفت الفتاة- بعد أن ارتدت قميصها الى الشاب- قائلة  بحدة " أعدنى الى المنزل" ..ارتبك الشاب و احمر وجهه أكثر فأشعل سيجارة و أدار محرك سيارته و انطلق بسرعة جنونية لا للخلف للمغادرة و لكن للأمام داهساً رجل الأمن تحت عجلات سيارته.
صرخت الفتاة من هول الموقف أما الشاب فانطلق بسيارته مسرعاً هرباً من المكان.

الساعة تقترب من الثالثة صباحاً , الرجل ملقى على الأرض ينزف من مناطق عديدة من جسده المثخن بالجراح و يأن طلباً للمساعدة و لكن ما من مجيب و فى مكان اخر فى صحراء المقطم يفتح الشاب باب السيارة التى تسير بسرعة كبيرة جداً  و يدفع الفتاة الراكبة بجواره الى أرض الطريق وواصل رحلته مسرعاً.


الساعة تقترب من الخامسة صباحاً , العديد من الكلاب الضالة تقترب من جثة الرجل الذى لفظ أنفاسه الأخيرة منذ قليل و تتشممه فى فضول و الراديو الترانزستور الصغير ما زال مفتوحاً على اذاعة أم كلثوم و صوتها يبدو كأنه قادم من عالم اخر و الشمع أوشك على الذوبان كله و بقايا ساندوتشات الجبن ملقلة باهمال على أحد الطاولات.
و فى أحد الشقق بمصر الجديدة, الشاب يبدو عاجزاً عن النوم و يتقلب فى سريره كثيراً قبل أن يقرر أن يشعل سيجاره و يجلس مفكراً فى مصير الرجل و الفتاة.


الساعة تقترب من السابعة صباحاً , الشمس تستعد للشروق و يوم عمل جديد على وشك البدأ.

 أوتوبيس كبير يقترب من المصنع حاملاً العاملين به و من بعيد تبدو جثة رجل فى الثلاثينات من العمر – و لكنه يبدو فى الخمسين- ملقاة أمام غرفة الحراسة و بالداخل صوت أم كلثوم ينبعث من راديو ترانزستور صغير.
****************************************************************

No comments:

Post a Comment