6/25/2011

اللقاء الأخير

فى نفس المكان الذى اعتدنا أن نلتقى فيه التقينا , وصلنا معاً فى نفس اللحظة , صافحتها و قبلتها على خدها بطريقة تقليدية , ابتسمت بعذوبة و أمسكت بيدى و خطونا الى طاولتنا المفضلة فى تؤدة.
المكان شبه خال كالعادة , من اللا مكان تصدح موسيقى شرقية تبدو مألوفة لكل من يسمعها, أتفحصها كعادتى كلما التقينا , ترتدى هذة المرة جوب واسعة قصيرة زرقاء تكشف عن ساقين جميلتين كصاحبتهما و قميص سماوى مخطط بنصف كم يلتصق بجسدها , تفرد شعرها الأشقر على كتفيها بالطريقة التى أحبها فتبدو أكثر جمالاً من كل المرات السابقة.
نجلس معاً فاترك يدها و أخرج علبة السجائر, أعطيها سيجارة فتأخذها مبتسمة و اخذ واحدة لنفسى . أشعل سيجارتها فتنفخ دخانها فى دلال تجاهى .
أشعل سيجارتى و أطلب قهوة فرنسية بالحليب و تطلب هى عصير برتقال مثلج.
يذهب النادل لاحضار المشروبات و أسترخى أنا فى جلستى متلذذاً بالنظر اليها, جميلة هى ( جوليا ) , فتاة جذابة و مرحة ايضاً , تملك عقلاً راجحاً و روحاً مرحة كذلك هى شديدة الذكاء و تقرأ أفكارى بسهولة , أذكر فى بداية تعرفى بها عندما وجدتها تتفق مع ارائى فى الكثير من الأشياء بل و نتفق معاً فى حب نفس أنواع الطعام و الموسيقى ايضاً .
(جوليا ) تعشق الشرق و خصوصاً مصر , جاءت الى مصر منذ 5 أعوام لدراسة سياسية عن نظم الحكم فى الشرق الأوسط و منذ ذلك الحين و قد قررت أن تحيا فى مصر. نجحت فى الحصول على عمل فى سفارة بلدها و عادت الي وطنها لانهاء كافة المتعلقات و الاستقرار فى مصر.
انها ليست سائحة ممن ينبهرون بالاثار الفرعونية و البحر الأحمر بل هى تعشق ما يعشقه المصريون فى مصر , تعشق القاهرة و الاسكندرية , تحب الموسيقى الشرقية و أكل المأكولات المصرية الدسمة, تسعد بالسهر حتى الفجر فى مقاهى الحسين و وسط البلد.
تعرفت عليها منذ عامين تقريباً فى حفلة موسيقية , و أصبحنا أصدقاء سريعاً , اعترفت لى بأننى المصرى الوحيد الذى لا يرغب فى ممارسة الجنس معها و هو ما يعجبها فى و اعترفت لها صراحة أن تربيتى المحافظة نوعاً ما هو ما يمنعنى من فعل ذلك و ليس نبل أخلاقى , تلاقينا فكرياً الى حد كبير , انها القصة التقليدية التى تتحول فيها الصداقة الشديدة الى حب.
قضيت أسعد أيامى مع (جوليا ) , عرفتها على مصر كما لم تعرفها من قبل, ازدادت انبهاراً بها و حباً لها و لى , أحببت كلامها بالعربية المتقنة جداً رغم أن اللكنة الأجنبية بكلامها بدت واضحة الا ان تلك اللكنة زادتها اغراءاً و عذوبة.
كانت ترفض أن تتحدث معى الا بالعربية , حقيقة كانت تتقن العربية كما لو أنها ولدت و تعلمت فى هذا البلد منذ عشرات الأعوام , ألم أقل لكم أنها ذكية تلك الفتاة.
تطورت علاقتنا مع الوقت تطوراً هادئاً و جميلاً , صرنا أصدقاء و أحباب فى نفس الوقت, استمرت هى فى التعرف على مصر من خلالى و استمريت أنا فى التعرف على الحضارة و الرقى الانسانى الموجود فى الشخصية الأوروبية من خلالها.
جعلتنى ألعن يومياً الحكم الاستبدادى القهرى التسلطى الفاشى الموجود فى بلادى منذ عقود مما جعل مصر عقيمة على أن تنجب (جوليا ) المتفتحة المحافظة الذكية اللبقة الاجتماعية المرحة الجادة . تلك الشخصية المعقدة السلسة لا يمكن أن تنتج الا فى ظل نظام ديموقراطى يحترم الانسان فيحترمه الانسان اما فى بلادى يا عزيزتى فنحن رعايا رئيس الدولة و زبانيته.
صدقونى ان الموضوع له علاقة مباشرة بالسياسة و نظم الحكم , فأنا يا (جوليا ) ابن هذا النظام , أنا ابن الرشوة و الفساد و السرقة و الظلم و الاستبداد و البطش و التنكيل و تكميم الأفواه. أنا –و ان كنت معارضاً – فشخصيتى تأثرت كثيراً بجو العفن والقبح الذى أعيش فيه , بل يمكن القول أننى نتاج هذا العفن و القبح حتى و ان بدوت لكى متحضراً و مثقفاً و متفتحاً .
لقد فكرت ملياً فى علاقتنا معاً و حقيقة فقد كنت أتمنى أن أقضى ما بقى من عمرى معها , اننا و ان بدونا متشابهين فى أشياء عديدة فالواقع اننا مختلفين تماماً عن بعضنا البعض , هى قدمت من بلاد حضارة قائمة و أن من بلاد الحضارة فيها تماثيل و صخور و ليست واقع يعاش.
حبيبتى ( جوليا ) لا تظنين أننى أكره مصر بالعكس أنا أعشق هذة البلد و عشقى لها و لك يجبرنى على قول الحقيقة.
أعلم أننى لن أجد بين بنات وطنى ( جوليا ) أخرى  بل سأجد فتيات ممسوخات فاما هن (متغربات ) يحاولن يائسات التشبه ببنات الغرب فيظهرن كالمسخ أو كالقردة المخيفة. أو أجد بنات أصيلات من النوع الذى يفهم الزواج على أنه غاية و ليس وسيلة و كلا النوعين لا يمكن أن أعيش معه أو أن أحبه كما أحبك يا(جوليا).
أعلم  أنك صاحبة عقل راجح و أكيد ستدركين أننا من طينة مختلفة حتى و ان ظهرنا متقاربين  ومتفاهمين .
هل يمكن أن يتفاهم شخص من بلد الانسان فيها هو مجموعة أوراق مع شخص اخر من بلد الانسان فيها هو الحاكم الفعلى للبلاد؟ لا أظن يا ( جوليا ).
أفيق من خواطرى على رائحة القهوة الفرنسية و على صوت جوليا ينادى باسمى و هى  باسمة , أشرف القهوة مع سيجارة أخرى و أخبرها أنه لقائنا الأخير دون ابداء أسباب قوية .
أدفع حسابنا معاً للمرة الأولى منذ أن عرفتها و أصافحها و أقبلها و أغادر المكان و أن ألمح فى عينيها –للمرة الأولى ايضاً – دموع تقاومها هى فى اباء و شموخ كعادتها و أخرج من المكان ممنياً نفسى بالعثور على (جوليا ) أخرى من بنات وطنى.
أعلم أن أمنيتى مستحيلة و لذلك فغالباً ما سأظل بلا (جوليا ).
**********************************************************

No comments:

Post a Comment