6/12/2011

أكثر حزناً من أن يبكى

أكثر حزناً من أن يبكى
الظلام يسود الغرفة و كذلك الهدوء التام , النوافذ مغلقة و كذلك الباب
الدولاب يقف شامخاً فى ركن الغرفة و على يمينه المنضدة المنخفضة التى تحمل فوقها تلفازاً كبيراً , السرير يتمدد فى منتصف الغرفة و كذلك هو متمدد فوق السرير نائماً على ظهره.
أغلق عينيه و فتح ثنايا عقله ليسترجع حياته كمن يشاهد فيلماً تليفزيونياً ...العرض يبدأ الان ....انه يرى لحظة ميلاده الان...انه من النوع الذى جاء الى الحياة على حساب حياة أمه ,ها هى أمه تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد نزيف لم يتمكن الأطباء من السيطرة عليه ليلفظ هو أنفاسه الأولى فى الدنيا..ها هى صرخة أمه الأخيرة و صرخته الأولى يتزامنان معاً محدثان صخباً فى المكان.
لقد كان ثمن حضوره الى الحياة باهظاً حقاً ..و لهذا السبب لم يحظى بحب جارف من والده..سببت وفاة أمه لأبيه صدمة نفسية نوعاً ما ..فهو قد خسر الجميع من أجل الزواج منها و ها هى بعد عام واحد من الزواج تفارق الحياة من أجل أن تحضر قطعة اللحم الأحمر المزعجة الى الحياة ...مؤسفة هى الحياة بدون أم فى الصغر و المؤسف أكثر الا يكون والدك يحبك ..لا يدرى ماذا مر به فى الأعوام الأولى من العمر لكنه شىء حزين و بائس ان تفتقد وجود أنثى فى الصغر ..لا يعرف كيف وصل الى سن المدرسة دون رعاية من أم أو خالة أو عمة أو جدة..المهم أن أبيه نجح أن يبقيه على قيد الحياة حتى سن المدرسة و التى فضل أبوه أن تكون مدرسة داخلية حيث يتربى و يتعلم معاً ....بدأت معالم شخصيته الانطوائية تظهر فى المدرسة ...لا يتحدث كثيراً مع الزملاء ..فقط يحن الى المدرسات بشكل خاص و يتقرب اليهن و يحاول بائساً تعويض الحنان الذى افتقده فى الصغر و لقد كان قريباً من قلب الكثير من المدرسات لذكائه و لاحساسه المرهف منذ الصغر..
انه يتذكر قبلة مدرسته الابتدائية التى كانت الأولى فى حياته و التى جعلته يبكى بعدها وحيداً لعدة أيام فى سريره فقد اكتشف –متأخراً – أن وجود سيدة حنون فى الحياة يجعلها مختلفة تماماً عن ذى قبل..
استمر فى تلك المدرسة حتى الثانوية و الحقيقة أن أبيه كان لا يدخر مالاً فى الانفاق عليه فى كل مصاريف المدرسة و الكتب و الملابس و كان يزوره مرة واحدة يوم الجمعة و لمدة ساعة على الأكثر..يعطيه الملابس و النقود و يسأله أسئلة روتينية عن الدراسة و يرحل سريعاً و كأنما جاء لتأدية واجب عزاء فى زوجته و ليرى قاتلها و ليس لزيارة ابنه الوحيد.. كان يبلغ قمة حزنه فى عطلة نهاية الأسبوع عندما يخرج الجميع أو على الأقل يأتى الأهل لزيارة الجميع الا هو يجلس وحيداًُ فى غرفته يرسم محاولاً تكفين الوقت باللوحات البيضاء و تغسيله بالألوان...مع مرور الوقت بدأت زيارات أبيه تقل و نقوده تزيد و كأن الأب كان يريد أن يريح ضميره بالاغداق فى الانفاق عليه و هو ما كان يؤدى الى زيادة احساسه بالحزن لأنه بالنسبة لأبيه مجرد مصاريف و ملابس فقط.
كانت هناك بعض العطلات تختلف عن مثيلاتها عندما تصطحبه احدى المدرسات الى الخارج لتناول الغداء أو الى الدخول الى السينما التى أحبها كثيراً عندما راها لأول مرة و هو فى المرحلة الثانوية..
انه يتذكر المرحلة الثانوية تحديداً أكثر من كل المراحل الأخرى من المدرسة ففيها انعدمت تقريباً زيارات الوالد و زادت نقوده بشدة كما أنه صار أكثر حباً للرسم و فى الثانوية ايضاً بدأت علاقته بمدرساته تزداد فقد صار أكثر قدرة على تبادل الحديث معهن و أكثر قدرة على فهمهن مما أدى الى تكوين العديد من الصداقات مع نساء يكبرنه بأعوام كثيرة..
انه الان يتذكر دخوله الى الجامعة ..يتذكر يومه الأول فى كلية الفنون الجميلة التى اختارها بمحض ارادته و عندها انفتح على عالم اخر مختلف تماماً ..استأجر له أبوه شقة بجوار الكلية لسببين أحدهما حقيقى و الاخر زائف , اما الزائف فقد قال له أنه يريده أن يتفوق فى دراسته و يكون قريباً من الكلية لتملأ الدراسة فقط حياته..اما الحقيقى فقد كان أنه لا يريد أن يعيش مع ابنه فى نفس المنزل و خصوصاً بعد أن أصبح مقر عمله هو مقر سكنه و أصبح معاقراً للخمر – الأب- مما يجعل قدوم ابنه للحياة معه كابوساً لا يطاق ...كانت حياة الجامعة مختلة كلياً و جزئياً عن حياة المدرسة ..كان يفتقد مدرساته اللاتى أحببهن بشدة كما كان يفتقد غرفته و سريره و لكنه مع الوقت تأقلم على الحياة فى منزله الجديد و انغمس فى الدراسة التى أحبها و ان ظلت انطوائيته تزداد مع مرور الوقت مما جعله مكروهاً من معظم الزملاء الذين كانوا يفسرون انطوائيته انها تكبر و تعالى من شاب ثرى لا أكثر.
ها هى الذاكرة تعود به الى الحب الأول فى حياته ..الى تلك الفتاة البيضاء الجميلة التى كانت زميلته فى الكلية و التى أحبها بشدة و قضيا معاً أوقاتاً ممتعة فى الكلية و خارجها و صارت زميلته و شريكته فى كل شىء ...انه يتذكر الان كيف اكتشف بعد عامين تقريباً من الحب العذرى الطاهر- دون أن يمسك يديها حتى- أنه الوحيد فى الدفعة الذى لم يشاركها الفراش و أنها كانت معروفة لكل الدفعة بعرها الا هو ..بالطبع تركها و سببت له صدمة كبيرة و بينت له ايضاً مدى جهله بالواقع من حوله و انعزاله فى عالمه الخاص..الحقيقة أن الفتاة أحبته جداً لأنه كان نقياً الى حد لا يوصف و لكنه تلقى الصدمة و انغمس بعدها فى الرسم مقرراً الابتعاد عن أى علاقات عاطفية فى الفترة القادمة.
كان دائماً ما يشعر بأنه لن يعيش طويلاً و أن الله لم يكتب له العمر المديد و هو ما جعله يعيش حياته بشكل ما مختلف عن كل الناس ...لم يكن يحرص على شىء ..كان يعيش مستمتعاً باحساس أنه لا يوجد ما تفقده و لا يوجد من تخاف عليه و هو احساس رائع لا يعلم مدى روعته الا من ذاقه..
استمرت سنواته فى الكلية بطريقة رتيبة حتى تخرج متفوقاً و اتجه الى سوق العمل ليشق طريقه بقوة فيه...بعد التخرج بفترة توفى والده و هو الأمر الذى أحزنه كثيراً على الرغم من أنهما لم يلتقيا فى السنوات الأخيرة الا مرات معدودة الا أنه وجد نفسه مفتقداً والده بشدة و بكى عليه بكاءاً حاراً كما تأكد بعد موت والده أنه صار وحيداً فى الحياة و بشكل رسمى كما جاءت وفاة الوالد لتعلن اكتمال ونضوج يتمه الأبدى.
ورث مبلغاً كبيراًً بعد وفاة والده مكنه من أن يفتتح مرسمه الخاص و يتفرغ تماماً للرسم و للمعارض و يعيش الحياة التى كان يعتقد أنها رائعة له..حتى قابلها..منذ علاقته الوحيدة فى الكلية و تعرضه لخدعة كبرى صارت فيما بعد أسطورة من أساطير كلية الفنون الجميلة فقد كان القدامى يحكون للجدد عن الطالب الذى أحب عاهرة و هو يظن أنها فتاة عادية...منذ ذلك الحين و هو لم يعرف فتاة حتى التقى بتلك السيدة فى احدى معارضه ..كانت تكبره بأعوام ثمانية تقريباً و كانت قمة فى الأناقة و الجمال و الاغراء..تجيد الحديث اللبق و تملك نظرات واثقة من نفسها..أبدت اعجابها بعدد من لوحاته فشكرها...انه يذكر الان أنها الوحيدة التى فهمت ماذا تعنى لوحاته و ماذا يقصد مما أكد له أنها فريدة من نوعها كما كان اسمها...فلا يفهم ماذا يريد أن يقول الرسام الى من يعرفه جيداً و كذلك الكاتب لا يفهم أحد ماذا يقصد بقصصه الا من يعرفه جيداً ..احب فريدة بشدة و كانت فريدة مطلقة حديثاً بعد زواج فاشل دام لعدة أعوام دون انجاب قبل أن ينتهى بالطلاق..كذلك أحبته فريدة و نجحت فى أن ترى ما بداخله و ليس هيئته الخارجية فازداد شغفاً بها...رسم لها عشرات اللوحات و جلست هى أمامه بالأيام ليرسمها و يحبها..كانت تعيش فى مرسمه تقريباً و كانت تملأ فراغ حياته الكبير ..معها عرف طعم قبلة الشفتين الأولى و معها ايضاً ذاق لأول مرة دفء النوم فى حضن امراءة ...كان يخطط للزواج من فريدة و لكنها دائماً ما كانت تقول أن الزواج مقبرة الحب و أنها لا مانع لديها من أن تبقى الى الأبد بجواره دون زواج و لكنه استمر فى اقناعها حتى رضخت و اتفقا على الزواج و لكن القدر كان أسرع فماتت فريدة فى حادث على طريق سريع قبل أسبوعين من موعد زواجهما مسببة له صدمة جديدة ..بعدها بدأ فى الانقطاع عن العمل لفترات طويلة و بدأت سلوكياته تتغير بشكل كبير ثم أصابه الجنون لفترة فبدأ يرسم لوحات بالحجم الطبيعى لأشخاص يحدثهم و يعيش معهم حياته لأنه كان بلا أصدقاء اطلاقاً ...كان يعامل لوحاته كأنهم أشخاص فيحدثهم و يسامرهم بل و يغضب منهم و يقاطعهم و كان معجباً بامتلاكه القوة المطلقة فى أن ينهى حياة أحدهم باحراقه أو بالقائه من  نافذة المرسم أو حتى بعزلهم فى غرفة ليموتوا جوعاً و عطشاً ...
مر به العمر ووصل الى الأربعينيات دون جديد...ذهب للعديد من الأطباء النفسيين حتى تمكن أخيراً من أن يعرف أن هؤلاء الأشخاص هم لوحات من صنعه و عاد مرة أخرى الى طبيعته و استمر فى اقامة معارضه التى أتاحت له التعرف على عدد كبير من السيدات و الفتيات يذكر منهن بعضاً و ينسى معظمهم و لكنه لم يحب أحداً كما أحب فريدة أو حتى كما أحب فتاة الكلية العاهرة وقتها...
ذاع صيته كرسام غريب الأطوار موهوب للغاية فعرف الكثيرين لوحاته و لكن أحداً لم يعرفه هو ..صار يملك النقود و الشهرة و النساء و لكنه لا يملك نفسه..
انتهى به الحال نزيلاً فى بيت للمسنين بعد أن بلغ من العمر أرذله مخالفاً كل توقعاته بأن عمره لن يطول كما أنه لم يعد قادراً على الرسم لاصابته بالشلل الرعاش ....تبرع بنصف ثروته للأيتام لأنه كان و ما زال رغم عمره الكبير واحداً منهم و النصف الخر اعطاه للدار مقابل رعايته رعاية كاملة حتى الموت و استسلم من وقتها للحياة فى الدار مع من مهم مثله من كبار السن الشاعرين بالوحدة اما لجفاء الأبناء أو لأسباب أخرى...
كل هذة الأحداث مرت به فى دقائق سريعة و هو يستعد للنوم..
كان يشعر أنها النومة الأخيرة التى لا قيام منها , فتح عينيه ليغلق شريط الذكريات و نام على جنبه الأيمن منتظراً الموت راسماً ابتسامة ضعيفة على وجهه.
يبدو أنه صار أكثر حزناً من أن يبكى.

No comments:

Post a Comment