8/14/2011

أغطية

يناير ....ليلة شديدة البرودة من ليالى الشتاء ...الرياح تضرب النافذة بقوة و الأمطار تهطل وتتوقف بدون سابق انذار .. شوارع القاهرة التى لا تنام قد نامت و بدت المدينة مهجورة فى هذة الساعة المتأخرة و الطقس المتقلب... فقط كلب متسكع يبحث عن عشاء لصغاره فى هذا الطقس البارد و شخص عجوز يعرج عرجة خفيفة يسير تحت الأمطار التى عادت للهطول مرة أخرى و هو يدخن, ثلاثة أرباع أضواء الشارع معطلة و الربع الباقى يظهر هذا المنظر المقفر.
يحكم اغلاق النافذة و يشد الستائر و يمشى الى سريره فيرقد عليه و يجذب الأغطية فوقه, طبقات كثيفة من الأغطية لعلها تساعد فى اتقاء هذا البرد القارص.
بعد دقائق يشعر بسعادة بالغة عندما يبدأ الدفء فى السريان فى الفراش , يزداد كسلاً و يقترب النوم من الوصول الى فراشه , يستعد لاستقباله فيغمض عينيه و ينقلب الى جنبه الأيمن و بعد لحظات يصل النوم اليه ضيفاً مرغوباً فيه بشدة .
يسيرا معاً جنباً الى جنب و رائحة الأزهار تسيطر على المكان , يمسك يديها و يتمتم بكلمات حب رقيقة فتبتسم و تنظر الى عينيه مباشرة, يشعر نحوها بكل مشاعر الحب و يتمنى أن يقضى كل ما تبقى من عمره معها , ينظر الى جانب الحديقة الاخر هناك شاب تبدو عليه علامات الثراء يأتى فى موكب هائل من الأشخاص و الحيوانات ؟, يخرج شنطة نقود و يبدأ فى القاء النقود فى الهواء بسرعة و بكثافة , يتطاير الأشخاص و الحيوانات محاولين الامساك بالنقود, يضحك من سخافة المنظر و ينظر الى حبيبته لا يجدها , يحيل بصره الى الجانب الاخر يراها فى ثوب زفاف أبيض تنضم الى موكب الشاب الثرى, يمر المكب من أمامه يقذفونه بالكتب , يتألم , ينظر الى الكتب انها كتب يعرفها .. ها هى رباعيات صلاح جاهين و 1984 رائعة جورج أورويل , يصطدم كتاب بعينه فيجده خريف الغضب لهيكل , يستمر الموكب فى القاء الكتب , روايات أحمد خالد توفيق تجاور أشعار أمل دنقل, يرفع يديه اتقاءاً للكتب و يسقط مغشياً عليه و سط العشرات من كتبه المفضلة.
 يفيق..يشعر بصداع شديد فى رأسه و يحاول أن يعود للوعى , لا يستطيع أن يفتح عينيه .تلتقطه فتاة جميلة شعرها أسود و طويل و يصل الى منتصف ظهرها, تضعه فى فمها و تعزف لحناً لأغنية يحبها ...ما هذا ؟ انه ناى , نعم هو تحول لناى فى يد الفتاة, تستمر فى عزف اللحن و تنهيه و تبدأ لحناً اخر لفيروز هذة المرة , يعزف اللحن سعيداً منبهراً من كونه ناى, لابد أن متاعب الحياة سوف تقل كثيراً عندما تصبح ناى.
تمر ساعات من العزف الجميل, يقع فى غرام الفتاة و هى الأخرى تبادله الحب و يصبح نايها هو كل حياتها.
سيدة تقتحم المكان فجأة , تخبأه الفتاة خلف ظهرها, صوت السيدة يرتفع و الفتاة تبدأ فى التوسل, يسمع اللعنات تصب على رأسه و يجد نفسه فى يد السيدة التى تفتح النافذة و تلقيه منها...
يهوى يهوى يهوى ....ثم يتحول الى طائر قبل الوصول للأرض بلحظات , يرتفع مرة أخرى فى السماء و يطير , يخفق بجناحيه عالياً عالياً يحاول الوصول الى أعلى نقطة , يصادف عصفورة جميلة فى طريق صعوده , يتعرف عليها و يعزفا معاً لحناً جديداً قديماً أبديأً و يواصلا الارتفاع معاً , يشعر بالتعب فجأة , تخبره رفيقته أن لهما حدود فى السماء لا يستطيعا تجاوزها , يبكى و هو يرغب فى الارتفاع أكثر , تنهره العصفورة وتتهمه بالطمع و عدم الرضا, يدب بينهما خلاف و يفترق كل منهما فى طريق .
يواصل الطيران بحثاً عن عش ,لا يعرف له عشاً  ..فيستمر فى الطير محلقاً , يلمح نسراً قادماً من بعيد, لا يخافه و يواصل الطيران , فجأة صار النسر أقرب كثيراً و مد منقاره و جرحه , مرة ..الأخرى , الثالثة , أصبح جسده مثخناً بالجراح, يشتم النسر و يلعنه فيزداد النسر ضرباً و جرحاً فيه , يشعر أنها النهاية , يغمض عينيه فى حزن منتظر الموت.
امراءة تصب عليه الماء فيفيق و ترد اليه الحياة ,ينظر الى نفسه لقد اختفت الأجنحة و أصبح زهرة ليلك جميلة , يزهو بنفسه و بهيئته الجديدة , يتابع المراءة ببصره , جميلة هى وجذابة , يبدو أنها لا تكبره بكثير عندما كان انساناً , يشع رائحته فى المكان طوال النهار و السيدة تداعبه و تسقيه الماء , و عندما يأتى المساء تتركه وحيداً فيبكى و يخرج ثانى أكسيد الكربون بكثافة.
فى الصباح التالى رجل يدخل الى المكان , يحتضن السيدة و يتبادلا الحب و القبلات فى سعادة , تجرى السيدة بسرعة و تختطفه من مكانه  و تقدمه الى الرجل , يحتضن الرجل السيدة و يلقيه بيده على المنضدة , يوشك على الموت و الذبلان و يوقن مرة أخرى أنها النهاية فيستسلم لها.
يعود الى صورة الطير و هو يهوى ثم يتحول الى ناى يسقط من نافذة غرفة الفتاة ثم يرجع الى صورة الرجل فى الحديقة , ينظر حوله فيجد مئات الكتب – كتبه – من حوله و يستمع الى عشرات الأغنيات التى يحبها فى نفس الوقت .
تطغى عليهم جميعاً أغنية ( و يمر الوقت ) بالفرنسية و يتحول الكمان فيها الى صوت مزعج ثابت كرنين المنبه ..... المنبه ..
انه يرن بلا توقف فى الغرفة و بشكل مزعج, يرفع الأغطية من فوقه واحد وراء الاخر و يوقف رنين المنبه المزعج, يتناول رشفة ماء من جواره و يفتح النافذة المغلقة فيرى الأمطار قد توقفت و الشمس قد بدأت فى السطوع ,
يرى نفس كلب الأمس نائماً و معه أولاده و بجوارهم العجوز الأعرج البائس , يمر من أمامه طيرُ جميل فيشعر بالتفاؤل و بأن القادم أفضل.
يرتدى ملابسه على عجل و ينزل بنشاط الى عمله , يمشى قليلاً بضع خطوات فى الشارع فيجد جثة الطائر الأبيض الجميل, يتأملها للحظات ثم يواصل طريقه الى عمله و فى عينيه تترقرق الدموع .
**********************************************************

No comments:

Post a Comment