6/25/2011

اللقاء الأخير

فى نفس المكان الذى اعتدنا أن نلتقى فيه التقينا , وصلنا معاً فى نفس اللحظة , صافحتها و قبلتها على خدها بطريقة تقليدية , ابتسمت بعذوبة و أمسكت بيدى و خطونا الى طاولتنا المفضلة فى تؤدة.
المكان شبه خال كالعادة , من اللا مكان تصدح موسيقى شرقية تبدو مألوفة لكل من يسمعها, أتفحصها كعادتى كلما التقينا , ترتدى هذة المرة جوب واسعة قصيرة زرقاء تكشف عن ساقين جميلتين كصاحبتهما و قميص سماوى مخطط بنصف كم يلتصق بجسدها , تفرد شعرها الأشقر على كتفيها بالطريقة التى أحبها فتبدو أكثر جمالاً من كل المرات السابقة.
نجلس معاً فاترك يدها و أخرج علبة السجائر, أعطيها سيجارة فتأخذها مبتسمة و اخذ واحدة لنفسى . أشعل سيجارتها فتنفخ دخانها فى دلال تجاهى .
أشعل سيجارتى و أطلب قهوة فرنسية بالحليب و تطلب هى عصير برتقال مثلج.
يذهب النادل لاحضار المشروبات و أسترخى أنا فى جلستى متلذذاً بالنظر اليها, جميلة هى ( جوليا ) , فتاة جذابة و مرحة ايضاً , تملك عقلاً راجحاً و روحاً مرحة كذلك هى شديدة الذكاء و تقرأ أفكارى بسهولة , أذكر فى بداية تعرفى بها عندما وجدتها تتفق مع ارائى فى الكثير من الأشياء بل و نتفق معاً فى حب نفس أنواع الطعام و الموسيقى ايضاً .
(جوليا ) تعشق الشرق و خصوصاً مصر , جاءت الى مصر منذ 5 أعوام لدراسة سياسية عن نظم الحكم فى الشرق الأوسط و منذ ذلك الحين و قد قررت أن تحيا فى مصر. نجحت فى الحصول على عمل فى سفارة بلدها و عادت الي وطنها لانهاء كافة المتعلقات و الاستقرار فى مصر.
انها ليست سائحة ممن ينبهرون بالاثار الفرعونية و البحر الأحمر بل هى تعشق ما يعشقه المصريون فى مصر , تعشق القاهرة و الاسكندرية , تحب الموسيقى الشرقية و أكل المأكولات المصرية الدسمة, تسعد بالسهر حتى الفجر فى مقاهى الحسين و وسط البلد.
تعرفت عليها منذ عامين تقريباً فى حفلة موسيقية , و أصبحنا أصدقاء سريعاً , اعترفت لى بأننى المصرى الوحيد الذى لا يرغب فى ممارسة الجنس معها و هو ما يعجبها فى و اعترفت لها صراحة أن تربيتى المحافظة نوعاً ما هو ما يمنعنى من فعل ذلك و ليس نبل أخلاقى , تلاقينا فكرياً الى حد كبير , انها القصة التقليدية التى تتحول فيها الصداقة الشديدة الى حب.
قضيت أسعد أيامى مع (جوليا ) , عرفتها على مصر كما لم تعرفها من قبل, ازدادت انبهاراً بها و حباً لها و لى , أحببت كلامها بالعربية المتقنة جداً رغم أن اللكنة الأجنبية بكلامها بدت واضحة الا ان تلك اللكنة زادتها اغراءاً و عذوبة.
كانت ترفض أن تتحدث معى الا بالعربية , حقيقة كانت تتقن العربية كما لو أنها ولدت و تعلمت فى هذا البلد منذ عشرات الأعوام , ألم أقل لكم أنها ذكية تلك الفتاة.
تطورت علاقتنا مع الوقت تطوراً هادئاً و جميلاً , صرنا أصدقاء و أحباب فى نفس الوقت, استمرت هى فى التعرف على مصر من خلالى و استمريت أنا فى التعرف على الحضارة و الرقى الانسانى الموجود فى الشخصية الأوروبية من خلالها.
جعلتنى ألعن يومياً الحكم الاستبدادى القهرى التسلطى الفاشى الموجود فى بلادى منذ عقود مما جعل مصر عقيمة على أن تنجب (جوليا ) المتفتحة المحافظة الذكية اللبقة الاجتماعية المرحة الجادة . تلك الشخصية المعقدة السلسة لا يمكن أن تنتج الا فى ظل نظام ديموقراطى يحترم الانسان فيحترمه الانسان اما فى بلادى يا عزيزتى فنحن رعايا رئيس الدولة و زبانيته.
صدقونى ان الموضوع له علاقة مباشرة بالسياسة و نظم الحكم , فأنا يا (جوليا ) ابن هذا النظام , أنا ابن الرشوة و الفساد و السرقة و الظلم و الاستبداد و البطش و التنكيل و تكميم الأفواه. أنا –و ان كنت معارضاً – فشخصيتى تأثرت كثيراً بجو العفن والقبح الذى أعيش فيه , بل يمكن القول أننى نتاج هذا العفن و القبح حتى و ان بدوت لكى متحضراً و مثقفاً و متفتحاً .
لقد فكرت ملياً فى علاقتنا معاً و حقيقة فقد كنت أتمنى أن أقضى ما بقى من عمرى معها , اننا و ان بدونا متشابهين فى أشياء عديدة فالواقع اننا مختلفين تماماً عن بعضنا البعض , هى قدمت من بلاد حضارة قائمة و أن من بلاد الحضارة فيها تماثيل و صخور و ليست واقع يعاش.
حبيبتى ( جوليا ) لا تظنين أننى أكره مصر بالعكس أنا أعشق هذة البلد و عشقى لها و لك يجبرنى على قول الحقيقة.
أعلم أننى لن أجد بين بنات وطنى ( جوليا ) أخرى  بل سأجد فتيات ممسوخات فاما هن (متغربات ) يحاولن يائسات التشبه ببنات الغرب فيظهرن كالمسخ أو كالقردة المخيفة. أو أجد بنات أصيلات من النوع الذى يفهم الزواج على أنه غاية و ليس وسيلة و كلا النوعين لا يمكن أن أعيش معه أو أن أحبه كما أحبك يا(جوليا).
أعلم  أنك صاحبة عقل راجح و أكيد ستدركين أننا من طينة مختلفة حتى و ان ظهرنا متقاربين  ومتفاهمين .
هل يمكن أن يتفاهم شخص من بلد الانسان فيها هو مجموعة أوراق مع شخص اخر من بلد الانسان فيها هو الحاكم الفعلى للبلاد؟ لا أظن يا ( جوليا ).
أفيق من خواطرى على رائحة القهوة الفرنسية و على صوت جوليا ينادى باسمى و هى  باسمة , أشرف القهوة مع سيجارة أخرى و أخبرها أنه لقائنا الأخير دون ابداء أسباب قوية .
أدفع حسابنا معاً للمرة الأولى منذ أن عرفتها و أصافحها و أقبلها و أغادر المكان و أن ألمح فى عينيها –للمرة الأولى ايضاً – دموع تقاومها هى فى اباء و شموخ كعادتها و أخرج من المكان ممنياً نفسى بالعثور على (جوليا ) أخرى من بنات وطنى.
أعلم أن أمنيتى مستحيلة و لذلك فغالباً ما سأظل بلا (جوليا ).
**********************************************************

6/22/2011

اوراق فتاة ليل

أوراق فتاة  ليل

فى ساعة مبكرة من الصباح أكتب اليكم هذة الأوراق, من أنتم ؟ أنا لا أعرف و لا أريد أن أعرف..المهم أننى وجدت من أشكو له همى اخيراً , أعلم أن كل من يقرأ هذة الأوراق الان لديه همومه الخاصة و لن يعتبر أوراقى و حكاياتى أكثر من قصة مسلية -أو مملة – يقرأها فينساها و لذلك فأنا لا أكتب من أجل متعتكم أو من أجل تعاطفكم و لا أكتب من أجلكم اصلاً بل أكتب من أجلى أنا , من أجل لا أكبت أحزانى بداخلى فتأذينى, لا أحد يستحق أن أشاركه مشاكلى. سأكون أكثر تفاؤلاً و أقول أن الشخص الذى يستحق مشاركتى لهمومى لم أتعرف عليه بعد.
مقدمة طويلة؟ نعم فأنا مملة بطبعى منذ الصغر. كنت مختلفة عن الأطفال الاخرين , أميل الى الصمت , الى التأمل فى الأشياء من حولى ..كان لى العديد من الأخوة و الأخوات بحكم الزمن وقتها فلم أنل اهتماماً كبيراً بعد ولادتى بعامين اذ سرعان ما قدم أخى الصغير الى العائلة و من بعده أخت الأصغر وأصبحنا كلنا مجرد رقم ( سبعة) ..أتذكر الان المسرحية العبقرية ل ( عادل امام ) و هو يسأل حاجب المحكمة ( سبعة أولاد فى الشهر ؟ ) كانت الجملة تثير ضحك الجميع فنحن سبعة ايضاً و لكن مع الفارق فوالدى كان موظفاً مرموقاً فى الدولة , لم نكن أغنياء بمعنى الكلمة و لكننا كنا لا نعانى مادياً ..لم أكن متفوقة دراسياً , كان الأساتذة يتهموننى دائماً بالكسل فى التفكير ..حقيقة لم أكن أعرف فيم أتفوق تحديداً ؟ المهم مرت السنون و نجحت فى الحصول على الشهادة الثانوية بمجموع ضعيف جداً جداً لم يؤهلنى لاى كلية ففضلت عدم الالتحاق باى جامعة و البقاء بالمنزل. بعد أن انهيت دراستى الثانوية بعام توفى أبى بعد سنوات من المعاناة مع المرض و تفرط عقد العائلة بين الدول .. أختى الكبرى تزوجت و ذهبت الى بيت زوجها, كذلك أخواى سافرا الى الخليج و الأخ الأصغر هاجر الى استراليا ..تبقى فقط أنا و أمى و الأخت الصغرى التى سرعان ما تزوجت هى الأخرى و سافرت مع زوجها الى الخارج – لا أذكر اى بلد تحديداً – اما أخى الأصغر فقد خرج فى يوم من الأيام و لم يعد و لا نعلم عنه شيئاً حتى هذة اللحظة.
أصبحت أمى مسئولة منى بعد كبر سنها و كان معاش الوالد يكفينا و لكن بمرور السنين و بعد أن وصلت- أنا بالطبع لا أمى - الى الثامنة و العشرين من العمر صار المعاش يكفى بالكاد ثم صرنا نواجه مشاكل مادية جمة فالمعاش ثابت عند ثلاثمائة جنيه و لكن الأسعار تجرى أسرع من الصاروخ مما دفعنى الى البحث عن عمل لتحسين الأوضاع, كنت واهمة فى موضوع فرصة العمل تلك فأنا نسيت القراءة و الكتابة اصلاً كما أننى لم أغادر منزلى منذ أعوام و لا أعلم شيئاً عن العالم بالخارج بل و أراه مفزعاً ايضاً .
رحم الله أمى من معاناة الفقر-و خصوصاً بعد راحة طوال عمرها- فماتت ذات يوم و هى تتوضأ لصلاة الفجر و تركتنى خلفها وحيدة تماماً فى هذا العالم
هنا برز السؤال ؟ لماذا أعيش ؟ كنت أعيش من أجل أمى و ها هى أمى قد ذهبت..بلغت الثلاثين من العمر و أصبحت فرصتى فى الزواج صعبة.
أريد أن أصرح لكم بشىء ايضاً , هل تعلمون أننى لم أرفض اى عريس ؟ تخيلوا أنه لم يتقدم لخطبتى شاب واحد ؟؟ هل أنا قبيحة ؟ كلا و الله ..أنا سمراء طويلة ممشوقة القوام أمتلك جسداً فارع الطول منسق و ملامح تراها فى أغلب الفتيات المصريات..هل هو النصيب ؟ لا أعتقد ايضاً ..فلا يمكن أن يعزف كل الرجال عنى بلا سبب...هناك سبب أجهله جعل الجميع يعزفون عنى.عشت عاماً أسود بعد وفاة الوالدة, أصبت باكتئاب شديد و فكرت فى الانتحار و أثنانى الله –عز وجل- عن هذة الفكرة , تغيرت شخصيتى كثيراً فصرت لا أتحدث تقريباً فمن أحدث؟ بعد محاولات ووسائط و اتصالات مكثفة تعينت أخيراً فى مدرسة ثانوى كمشرفة بمرتب ضعيف جداً و لكنه كان يكفينى للعيش خصوصاً و أن المدرسة بجوار المنزل.
بعد أن بدأت عمل عادت الحياة الى مرة أخرى و بدأت اهتم بمظهرى و بنفسى و صرت أجمل و أكثر اشراقاً.. كنت مطمعاً لرجال كثيرين ليس من أجل الزواج طبعاً و لكننى قاومت بانتظار عريس من السماء أو من الأرض أو من تحت الأرض حتى..المهم أن أجد حائط أرتكن اليه و أنجب أولاداً ..كان يومياً يراودنى حلم أننى أم لأطفال كثيرة و أستيقظ فأبكى على وحدتى.
فوجئت ذات يوم بأن هناك خصلات بيضاء تتسلل الى شعرى ..انتابتنى حالة من الذهول, هل مضى العمر بهذة السرعة؟ هل أصبح الشباب يتحول الى ماضى ؟ فاجائنى أكثر من غريب بكلمة ( يا مدام) ثم صدمنى سائق تاكسى بكلمة ( يا حاجة) فأصبحت الدنيا سوداء فى عينى.
هل أنا (حاجة) ؟ هل أصبحت أقرب لسيدة كبيرة منى لشابة ؟ أصبحت أنظر الى المراة كثيراً و أتكلم معها , استعملت صبغات كثيرة لدرء اللون الأبيض و حافظت على جمال جسدى و أصبحت أتفنن فى اختيار الملابس الضيقة حتى يعرف الجميع أننى لست (حاجة) ..بالفعل نجح الماكياج و نجحت الملابس فى خداع الناس فصرت مرة أخرى ( انسة ) أو على اسوأ الفروض ( مدام ) و أصبح شغلى الشاغل هو اختيار ملابسى و ماكياجى و طريقة مشيتى ليس الا.
بعد عدة أعوام استقلت من المدرسة لأعمل فى عيادة طبيب فى الفترة المسائية – فأنا كائنة ليلية بطبعى – و المرتب مغرى لأن معظم الفتيات يرفضن العمل فى الفترة المسائية التى تمدد حتى الثالثة من صباح كل يوم.
عند الفجر أنهى عملى فى العيادة و أنزل الى الشارع أسير حتى المنزل.يظن الجميع أننى فتاة ليل فيعاكسوننى و يتحرشون – لفظياً – بى و يحاولون معى و أنا أستمتع بمعاكستهم ثم أتركههم يائسين محبطين.
دون أن أدرى أصبحت أتعمد تأكيد صورة فتاة الليل لدى الجميع بدءاً من الطبيب الذى أعمل فى عيادته و حتى الجيران الذين أصبحوا يقابلونى بكلمة ( استغفر الله العظيم ).
أعرف أننى مريضة نفسياً و لكننى أعشق نظرات الرجال الشهوانية الى جسدى و أعشق كلمات الغزل – وخصوصاً الخارج منها – الموجهة الى و يشهد الله أن رجلاً لم يلمسنى فى حياتى و لكن هكذا أنا و لا أعرف علاجاً لحالتى تلك.
اليوم أخذت أفكر فى هذا الموضوع طويلاً حتى جاء الصباح فقررت أن أمسك بورقة و قلم و أكتب تفريغاً لهمومى.
بطاقتى و شهادة ميلادى يقولان أننى سأتمم العام السابع و الأربعين بعد أيام و لكنهما يكذبان فأنا بعد فى الثلاثينيات و لا زال العمر أمامى طويلاً و يوماً ما سأكون زوجة و أم مثالية ترعى بيتها بمنتهى الهمة و الاخلاص.




6/16/2011

ليلة القبض على الجاسوس

منذ أيام قليلة أفاقت القاهرة على خبر القبض على جاسوس اسرائيلى فى مصر و هلل البعض و كبر البعض الاخر و أعلن العديد من أبناء هذا الشعب الطيب رضاهم التام عن روعة عمل جهاز المخابرات المصرية و مثلى مثل معظم المصريين فرحت بخبر القبض على الجاسوس – لعنة الله عليه- الذى بكل تأكيد أراد ببلدنا سوء و قفزت الى ذهنى صورة محسن ممتاز (يوسف شعبان ) رجل المخابرات الفذ الذى نال اعجابى منذ الطفولة – ربما أكثر من رأفت الهجان نفسه- و تخيلته هو- أو شخص مثله و يمتلك نفس حنجرته- و هو يلقى القبض على الاسرائيلى الدخيل و تخيلت الجاسوس و هو منهار و يستعد للاعتراف بكل جرائمه فى حق هذا البلد الطيب..تخيلت هذا المشهد و فى الخلفية موسيقى للمبدع عمار الشريعى.
و لكن بعد أن هدأت نشوة الانتصار الساحق على الموساد و بدأت أخبار القضية تنتشر فى وسائل الاعلام بشكل سريع و مكثف و نزل ألبوم الصور الكامل الخاص بالقضية..بدأت أتعجب من كم الصور و التفاصيل الذى نزل الى الاعلام فجأة متتبعاً كل ما ينشر عن الجاسوس و مدققاً فيه فوجدت الأمر يبعث على الضحك و أنه كله لا يعدو كونه خدعة كبيرة من جهة ما هدفها ابعاد أنظار الرأى العام عن القضايا الملحة مثل محاكمة مبارك و زبانيته أو
الحديث عن الانتخابات و خلافه بل و أعتقد- و الله أعلم – أن هناك بعض الجهات التى حاولت استغلال الحدث للايحاء بأن نظرية الاجندات صحيحة و أن من كانوا فى التحرير ما هم الا جواسيس أو عملاء للجواسيس أو شباب مخدوع لا يدرى أنه لعبة فى يد اسرائيل.
و الحقيقة أن هذا الجاسوس المسكين لا يمكن أن يكون جاسوساً بأى حال من الأحوال ..فاذا أرادت اسرائيل حقاً أن ترسل جاسوساً الى مصر فلن يكون هذا الجاسوس ضابط اسرائيلى شارك فى حرب لبنان و  لديه صور فى الحرب أكثر من الصور التى يلتقطها أحد منا فى مناسبة سعيدة و كلها موجودة ايضاً على اللاب توب الخاص به كذلك لن يأتى شخصاً ما ليتجسس فيلتقط صورة ضاحكة فى كل أماكن تجسسه ( التحرير , الأزهر , امبابة , الهرم , الأقصر ) بل و يحتفظ بكل تلك الصور ( الاسرائيلية و المصرية ) معاً على جهاز واحد..
تخيلوا معى لو أن رأفت الهجان كان يملك جهاز كومبيوتر يحتوى فى ملف ( فولدر ) على صور له مع رجال المخابرات المصرية أثناء تناولهم للقهوة فى المنزل الامن الذى تلقى فيه رأفت تدريباته و على ملف ( فولدر ) اخر يملك صوراً له مع سيرينا اهارونى ورجال الكنيست الاسرائيلى .. انه أمر هزلى حقاً.
كما أن هذا الجاسوس ملامحه اسرائيلية الى درجة لا تصدق و أعتقد أن الموساد – و اذا افترضنا فيه الغباء- فلا يمكن أن يصل الى هذة الدرجة من السذاجة فيرسل جاسوساً الى مصر تقول ملامحه أنه اسرائيلى يهودى صهيونى حتى عاشر جد بل و يملك صفحة باسمه ( الاسرائيلى ) على الفيس بوك و يغير ايضاً صورته الشخصية يومياً واضعاً صوره أثناء التجسس رغم أن التحقيقات قالت أنه دخل البلاد بجواز سفر أوروبى !!
هناك ايضاً نقطة فى غاية الخطورة و الأهمية و هى اذا صدقنا أن هذا جاسوس و أنه جاء للتجسس فترى ما هو هدفه و ما هى المعلومات الخطيرة التى يمكن أن يحصل عليها من التحرير أو من الأماكن التى زارها؟ أعتقد أنه لم يكن ليحصل على أكثر من المعلومات المتاحة على صفحة شبكة رصد على الفيس بوك و المتاحة على موقع تويتر و كان يكيفه أن يقوم بعمل ( فولو ) لعشرين شخصاًُ معروفاً على تويتر ليحصل على كل المعلومات التى سيحصل عليها من الشارع المصرى او يجلس فى اسرائيل امناً يتابع برامج التاك شو و الانترنت للحصول على المعلومات و تحليلها.
اما اذا افترضنا جدلاُ أنه جاء للوقيعة بين الجيش و الشعب و قام بتوزيع منشورات تدعو لاقالة المجلس العسكرى فأكبر الظن أنه كان يحتاج الى شبكة مكونة من مئات او الاف الأشخاص للعمل على هذة الفكرة اما أن يكون هذا الشاب النحيل سبباً فى الفتنة الطائفية و سبباًُ فى الوقيعة بين الجيش و الشعب فهو أمر لا يقبله عقلى البسيط.
نهاية فان القصة كلها تبدو هزلية جداً و على الرغم من ان الجانب المصرى قد أراد أن يظهر بمظهر البطل الهمام الذى يطهر مصر من الجواسيس فقد انتهى الأمر بأن أصبح الجانب المصرى مثير للشفقة من فرط عدم سبكه للطبخة التى أراد أن يؤكلها للشعب الطيب.
ملحوظة أخيرة: أعرف جاسوساً –حقيقياً – لاسرائيل يرقد الان فى شرم الشيخ بدعوى الاكتئاب النفسى و أعتقد أن الدلائل على تجسسه أقوى و أوضح.




6/12/2011

أكثر حزناً من أن يبكى

أكثر حزناً من أن يبكى
الظلام يسود الغرفة و كذلك الهدوء التام , النوافذ مغلقة و كذلك الباب
الدولاب يقف شامخاً فى ركن الغرفة و على يمينه المنضدة المنخفضة التى تحمل فوقها تلفازاً كبيراً , السرير يتمدد فى منتصف الغرفة و كذلك هو متمدد فوق السرير نائماً على ظهره.
أغلق عينيه و فتح ثنايا عقله ليسترجع حياته كمن يشاهد فيلماً تليفزيونياً ...العرض يبدأ الان ....انه يرى لحظة ميلاده الان...انه من النوع الذى جاء الى الحياة على حساب حياة أمه ,ها هى أمه تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد نزيف لم يتمكن الأطباء من السيطرة عليه ليلفظ هو أنفاسه الأولى فى الدنيا..ها هى صرخة أمه الأخيرة و صرخته الأولى يتزامنان معاً محدثان صخباً فى المكان.
لقد كان ثمن حضوره الى الحياة باهظاً حقاً ..و لهذا السبب لم يحظى بحب جارف من والده..سببت وفاة أمه لأبيه صدمة نفسية نوعاً ما ..فهو قد خسر الجميع من أجل الزواج منها و ها هى بعد عام واحد من الزواج تفارق الحياة من أجل أن تحضر قطعة اللحم الأحمر المزعجة الى الحياة ...مؤسفة هى الحياة بدون أم فى الصغر و المؤسف أكثر الا يكون والدك يحبك ..لا يدرى ماذا مر به فى الأعوام الأولى من العمر لكنه شىء حزين و بائس ان تفتقد وجود أنثى فى الصغر ..لا يعرف كيف وصل الى سن المدرسة دون رعاية من أم أو خالة أو عمة أو جدة..المهم أن أبيه نجح أن يبقيه على قيد الحياة حتى سن المدرسة و التى فضل أبوه أن تكون مدرسة داخلية حيث يتربى و يتعلم معاً ....بدأت معالم شخصيته الانطوائية تظهر فى المدرسة ...لا يتحدث كثيراً مع الزملاء ..فقط يحن الى المدرسات بشكل خاص و يتقرب اليهن و يحاول بائساً تعويض الحنان الذى افتقده فى الصغر و لقد كان قريباً من قلب الكثير من المدرسات لذكائه و لاحساسه المرهف منذ الصغر..
انه يتذكر قبلة مدرسته الابتدائية التى كانت الأولى فى حياته و التى جعلته يبكى بعدها وحيداً لعدة أيام فى سريره فقد اكتشف –متأخراً – أن وجود سيدة حنون فى الحياة يجعلها مختلفة تماماً عن ذى قبل..
استمر فى تلك المدرسة حتى الثانوية و الحقيقة أن أبيه كان لا يدخر مالاً فى الانفاق عليه فى كل مصاريف المدرسة و الكتب و الملابس و كان يزوره مرة واحدة يوم الجمعة و لمدة ساعة على الأكثر..يعطيه الملابس و النقود و يسأله أسئلة روتينية عن الدراسة و يرحل سريعاً و كأنما جاء لتأدية واجب عزاء فى زوجته و ليرى قاتلها و ليس لزيارة ابنه الوحيد.. كان يبلغ قمة حزنه فى عطلة نهاية الأسبوع عندما يخرج الجميع أو على الأقل يأتى الأهل لزيارة الجميع الا هو يجلس وحيداًُ فى غرفته يرسم محاولاً تكفين الوقت باللوحات البيضاء و تغسيله بالألوان...مع مرور الوقت بدأت زيارات أبيه تقل و نقوده تزيد و كأن الأب كان يريد أن يريح ضميره بالاغداق فى الانفاق عليه و هو ما كان يؤدى الى زيادة احساسه بالحزن لأنه بالنسبة لأبيه مجرد مصاريف و ملابس فقط.
كانت هناك بعض العطلات تختلف عن مثيلاتها عندما تصطحبه احدى المدرسات الى الخارج لتناول الغداء أو الى الدخول الى السينما التى أحبها كثيراً عندما راها لأول مرة و هو فى المرحلة الثانوية..
انه يتذكر المرحلة الثانوية تحديداً أكثر من كل المراحل الأخرى من المدرسة ففيها انعدمت تقريباً زيارات الوالد و زادت نقوده بشدة كما أنه صار أكثر حباً للرسم و فى الثانوية ايضاً بدأت علاقته بمدرساته تزداد فقد صار أكثر قدرة على تبادل الحديث معهن و أكثر قدرة على فهمهن مما أدى الى تكوين العديد من الصداقات مع نساء يكبرنه بأعوام كثيرة..
انه الان يتذكر دخوله الى الجامعة ..يتذكر يومه الأول فى كلية الفنون الجميلة التى اختارها بمحض ارادته و عندها انفتح على عالم اخر مختلف تماماً ..استأجر له أبوه شقة بجوار الكلية لسببين أحدهما حقيقى و الاخر زائف , اما الزائف فقد قال له أنه يريده أن يتفوق فى دراسته و يكون قريباً من الكلية لتملأ الدراسة فقط حياته..اما الحقيقى فقد كان أنه لا يريد أن يعيش مع ابنه فى نفس المنزل و خصوصاً بعد أن أصبح مقر عمله هو مقر سكنه و أصبح معاقراً للخمر – الأب- مما يجعل قدوم ابنه للحياة معه كابوساً لا يطاق ...كانت حياة الجامعة مختلة كلياً و جزئياً عن حياة المدرسة ..كان يفتقد مدرساته اللاتى أحببهن بشدة كما كان يفتقد غرفته و سريره و لكنه مع الوقت تأقلم على الحياة فى منزله الجديد و انغمس فى الدراسة التى أحبها و ان ظلت انطوائيته تزداد مع مرور الوقت مما جعله مكروهاً من معظم الزملاء الذين كانوا يفسرون انطوائيته انها تكبر و تعالى من شاب ثرى لا أكثر.
ها هى الذاكرة تعود به الى الحب الأول فى حياته ..الى تلك الفتاة البيضاء الجميلة التى كانت زميلته فى الكلية و التى أحبها بشدة و قضيا معاً أوقاتاً ممتعة فى الكلية و خارجها و صارت زميلته و شريكته فى كل شىء ...انه يتذكر الان كيف اكتشف بعد عامين تقريباً من الحب العذرى الطاهر- دون أن يمسك يديها حتى- أنه الوحيد فى الدفعة الذى لم يشاركها الفراش و أنها كانت معروفة لكل الدفعة بعرها الا هو ..بالطبع تركها و سببت له صدمة كبيرة و بينت له ايضاً مدى جهله بالواقع من حوله و انعزاله فى عالمه الخاص..الحقيقة أن الفتاة أحبته جداً لأنه كان نقياً الى حد لا يوصف و لكنه تلقى الصدمة و انغمس بعدها فى الرسم مقرراً الابتعاد عن أى علاقات عاطفية فى الفترة القادمة.
كان دائماً ما يشعر بأنه لن يعيش طويلاً و أن الله لم يكتب له العمر المديد و هو ما جعله يعيش حياته بشكل ما مختلف عن كل الناس ...لم يكن يحرص على شىء ..كان يعيش مستمتعاً باحساس أنه لا يوجد ما تفقده و لا يوجد من تخاف عليه و هو احساس رائع لا يعلم مدى روعته الا من ذاقه..
استمرت سنواته فى الكلية بطريقة رتيبة حتى تخرج متفوقاً و اتجه الى سوق العمل ليشق طريقه بقوة فيه...بعد التخرج بفترة توفى والده و هو الأمر الذى أحزنه كثيراً على الرغم من أنهما لم يلتقيا فى السنوات الأخيرة الا مرات معدودة الا أنه وجد نفسه مفتقداً والده بشدة و بكى عليه بكاءاً حاراً كما تأكد بعد موت والده أنه صار وحيداً فى الحياة و بشكل رسمى كما جاءت وفاة الوالد لتعلن اكتمال ونضوج يتمه الأبدى.
ورث مبلغاً كبيراًً بعد وفاة والده مكنه من أن يفتتح مرسمه الخاص و يتفرغ تماماً للرسم و للمعارض و يعيش الحياة التى كان يعتقد أنها رائعة له..حتى قابلها..منذ علاقته الوحيدة فى الكلية و تعرضه لخدعة كبرى صارت فيما بعد أسطورة من أساطير كلية الفنون الجميلة فقد كان القدامى يحكون للجدد عن الطالب الذى أحب عاهرة و هو يظن أنها فتاة عادية...منذ ذلك الحين و هو لم يعرف فتاة حتى التقى بتلك السيدة فى احدى معارضه ..كانت تكبره بأعوام ثمانية تقريباً و كانت قمة فى الأناقة و الجمال و الاغراء..تجيد الحديث اللبق و تملك نظرات واثقة من نفسها..أبدت اعجابها بعدد من لوحاته فشكرها...انه يذكر الان أنها الوحيدة التى فهمت ماذا تعنى لوحاته و ماذا يقصد مما أكد له أنها فريدة من نوعها كما كان اسمها...فلا يفهم ماذا يريد أن يقول الرسام الى من يعرفه جيداً و كذلك الكاتب لا يفهم أحد ماذا يقصد بقصصه الا من يعرفه جيداً ..احب فريدة بشدة و كانت فريدة مطلقة حديثاً بعد زواج فاشل دام لعدة أعوام دون انجاب قبل أن ينتهى بالطلاق..كذلك أحبته فريدة و نجحت فى أن ترى ما بداخله و ليس هيئته الخارجية فازداد شغفاً بها...رسم لها عشرات اللوحات و جلست هى أمامه بالأيام ليرسمها و يحبها..كانت تعيش فى مرسمه تقريباً و كانت تملأ فراغ حياته الكبير ..معها عرف طعم قبلة الشفتين الأولى و معها ايضاً ذاق لأول مرة دفء النوم فى حضن امراءة ...كان يخطط للزواج من فريدة و لكنها دائماً ما كانت تقول أن الزواج مقبرة الحب و أنها لا مانع لديها من أن تبقى الى الأبد بجواره دون زواج و لكنه استمر فى اقناعها حتى رضخت و اتفقا على الزواج و لكن القدر كان أسرع فماتت فريدة فى حادث على طريق سريع قبل أسبوعين من موعد زواجهما مسببة له صدمة جديدة ..بعدها بدأ فى الانقطاع عن العمل لفترات طويلة و بدأت سلوكياته تتغير بشكل كبير ثم أصابه الجنون لفترة فبدأ يرسم لوحات بالحجم الطبيعى لأشخاص يحدثهم و يعيش معهم حياته لأنه كان بلا أصدقاء اطلاقاً ...كان يعامل لوحاته كأنهم أشخاص فيحدثهم و يسامرهم بل و يغضب منهم و يقاطعهم و كان معجباً بامتلاكه القوة المطلقة فى أن ينهى حياة أحدهم باحراقه أو بالقائه من  نافذة المرسم أو حتى بعزلهم فى غرفة ليموتوا جوعاً و عطشاً ...
مر به العمر ووصل الى الأربعينيات دون جديد...ذهب للعديد من الأطباء النفسيين حتى تمكن أخيراً من أن يعرف أن هؤلاء الأشخاص هم لوحات من صنعه و عاد مرة أخرى الى طبيعته و استمر فى اقامة معارضه التى أتاحت له التعرف على عدد كبير من السيدات و الفتيات يذكر منهن بعضاً و ينسى معظمهم و لكنه لم يحب أحداً كما أحب فريدة أو حتى كما أحب فتاة الكلية العاهرة وقتها...
ذاع صيته كرسام غريب الأطوار موهوب للغاية فعرف الكثيرين لوحاته و لكن أحداً لم يعرفه هو ..صار يملك النقود و الشهرة و النساء و لكنه لا يملك نفسه..
انتهى به الحال نزيلاً فى بيت للمسنين بعد أن بلغ من العمر أرذله مخالفاً كل توقعاته بأن عمره لن يطول كما أنه لم يعد قادراً على الرسم لاصابته بالشلل الرعاش ....تبرع بنصف ثروته للأيتام لأنه كان و ما زال رغم عمره الكبير واحداً منهم و النصف الخر اعطاه للدار مقابل رعايته رعاية كاملة حتى الموت و استسلم من وقتها للحياة فى الدار مع من مهم مثله من كبار السن الشاعرين بالوحدة اما لجفاء الأبناء أو لأسباب أخرى...
كل هذة الأحداث مرت به فى دقائق سريعة و هو يستعد للنوم..
كان يشعر أنها النومة الأخيرة التى لا قيام منها , فتح عينيه ليغلق شريط الذكريات و نام على جنبه الأيمن منتظراً الموت راسماً ابتسامة ضعيفة على وجهه.
يبدو أنه صار أكثر حزناً من أن يبكى.

6/07/2011

القطار

انه يوم الجمعة ...اليوم الذى انتظره كل أسبوع بفارغ الصبر لأعود الى الاسكندرية –موطنى الأصلى- بعد أسبوع عمل عادة ما يكون شاق لأقضى يومين أحدهما بصحبة الأهل و الاخر بصحبة الأصدقاء قبل أن أعود الى العاصمة المقززة مرة أخرى فى ليل السبت استعداداً لبدء أسبوع ممل جديد.
الساعة تقترب من الثامنة صباحاُ فأنا اعود من عملى مساء الخميس مرهق بشدة فأنام حتى فجر الجمعة و استعد للسفر مبكراً للحاق بيومى كاملاً فى الاسكندرية.
أجلس فى كافتيريا المحطة بانتظار قطار الثامنة و الربع ..أطلب قهوة عالريحة و أشعل سيجارة و ابدأ فى تصفح العدد الأسبوعى السمين من جريدة الأهرام.
لا أجد سوى اعلانات مكررة من الجمعة الماضية فأتصفح كتابى الذى أخترته للرحلة و يبدو مبشراً للغاية فيصير مزاجى رائقاً خصوصاً مع ازدياد النسمات الرقيقة القادمة من جهة الشمال مما يوحى بجو أكثر من بديع فى الاسكندرية.
أتجه نحو القطار و أبحث عن مقعدى حتى أجده فأجلس ناظراً الى الأشياء من خارج النافذة و أنتظر أن تبدأ فى التحرك للخلف بسرعة تتزايد مع مرور الوقت.
أحب السفر بالقطار و أفضله عن كل وسائل السفر الأخرى بما فيها الطائرة, القطار ممتع جداً و الذى يتأمل سفره بالقطار سيكتشف متعة لا نهاية لها فى تأمل الأشياء و الأشخاص.
عندها دخلت هى و جلست فى الكرسى المواجه لى مباشرة بملابسها الغريبة نوعاً ما و ان كانت محتشمة الى حد كبير ..نظرت اليها نظرة سريعة و اشحت بوجهى حتى لا أسبب لها احراجاً و لكن ملامحها انطبعت فى ذهنى فى ثانية ..شعرهاحالك السواد طويل ينسدل على كتفيها فيصل الى منتصف ظهرها .عيناها  سوداوتان واسعتان وفوقهما حاجبان مستقيمان و شفتاها مكتنزتان..خداها منتفخان باحمرار جذاب ..تملك رقبة طويلة ..هى ليست بيضاء و ليست سمراء ..هى سمراء أقرب للبياض أو بيضاء أقرب للسمار لا أستطيع التحديد و لكن لون بشرتها أخاذ الى درجة لا توصف...انها كلها جذابة الى درجة لا تصدق ...ملابسها غريبة كما ذكرت ترتدى ثوباً طويلاً أٌقرب الى الفستان و لكنه ليس كذلك ..أبيض اللون مزركش من عند الكتفين و الصدر بألوان زاهية لامعة و من الكتف للخصر يقطع ثيابها شريط من القماش الأحمر يصل حتى ظهرها..ترتدى فى قدميها خفاً  أحمر ذو كعب ليس بعال..شكلها مع ملابسها يبدو كلوحة فنية .. تجلس فى شرود تنظر الى خارج القطار الذى بدأ بالفعل فى التحرك مخلفاً وراءه محطة ثابتة فى مكانها منذ عقود.
أردت أن أنظر اليها مرة أخرى و لكننى خشيت من أن أسبب لها احراجاً فأخرجت كتابى و بدأت بالقراءة فى مقدمته ..
أكتشفت أنه من المستحيل التركيز فى القراءة أو فى اى شىء اخر الا هى فألقيت الكتاب و خطفت نظرة سريعة اليها مرة أخرى.
أين رأيت هذة الفتاة من قبل..من المؤكد أننا عشنا حياة سابقة معاً فى بلاد بعيدة كانت هى فيها زوجتى أو أختلى و ربما أمى او ابنتى فأنا أشعر تجاه وجهها بألفة غير مسبوقة ...دون قصد أطلت النظر اليها فانتبهت الى نظراتى الفضولية..وجدت نفسى مرتبكاً فرسمت ابتسامة خفيفة لعلها تخفف من توترى فبادلتى الابتسام كاشفة عن أجمل ابتسامة رأيتها فى حياتى ثم عادت الى النظر الى خارج القطار.
لم أعد أستطيع الجلوس فى مكانى فقمت الى خارج العربة و أشعلت سيجارة دخنتها فى توتر و أنا أتصبب عرقاً ..لم أعد أدرى ما العمل ...أرغب فى التحدث اليها و لكننى غير معتاد على محادثة الغرباء كما أننى أخشى أن أسبب لها أو لى احراجاً دون مبرر...لم أدرى ماذا أفعل فعدت مرة أخرى الى جلستى فى القطار ..أخرجت كتابى و أخرجت قلماً و فى الصفحات البيضاء أخذت أكتب عنها محاولاً وصفها أو رسمها بالكلمات ...كنت أختلس النظر اليها من حين لاخر و ساعدنى أنها قد أغلقت عينيها فأطلت النظر اليها مكتشفاً أن كل ما قلته عنها كان وهماًُ .
هذة واحدة لا يمكن أن تقول عنها جميلة أو جذابة ...تلك هى فتاة لو حاولت وصفها فـأنك تحط من شأنها , من غير المعقول أن هذة الفتاة تنتمى الى عالمنا و الى بلدنا, من المؤكد أن فى الأمر خدعة ما.
عذراً سأتوقف عن الحديث عن جمالها لأننى غير قادر على ايجاد كلمات مناسبة من المؤكد أن الكلمات التى ستوصف بها لم تكتشف بعد و سيأتى يوماً ما تخترع البشرية قاموساً جديداً قادراً على وصف تلك الزهرة البشرية.
نظرية النسبية تعمل بكفاءة عالية..ها هو القطار يصل الى محطة سيدى جابر بسرعة البرق ..أعتقد أن ما قضيته فى تأملها لا يتجاوز العشر دقائق و ليس ساعتين كما تقول الساعة الكاذبة.
استيقظت من نومها عند وصول القطار فأخذت شنطة يدها الكبيرة نوعاً ما و نزلت من القطار و أنا وراءها أراقبها من بعيد, فكرت فى أن أستمر فى مراقبتها و لكننى سرعان ما اكتشفت عدم جدوى ذلك و كذلك استحقرت التصرف للغاية.
خرجت من المحطة و جلست على الرصيف أدخن و ملامحها لا تزال منطبعة فى عيناى و خصوصاً ابتسامتها ..
حسناً يبدو أن هذة الاجازة ستكون مختلفة نوعاً ما ..لن أقضى يوماً مع الأهل و اخر مع الأصدقاء..بل سأقضى اليومين بحثاً عنها ..رغم انى لا أعلم ماذا بعد لو وجدتها و لكن ما أرغب فيه الان أن أراها مرة أخرى فقط و ليكن ما يكون

6/01/2011

حلم لا ينتهى

الجو عاصف للغاية خارج الغرفة ..أتوقع هطول أمطار بعد وقت قليل.أتسلل لغرفتها أنظر اليها و هى نائمة,غريبة هى حالتها و لا أجد لها تفسيراً , أقترب من الكومود بجوار سريرها فأجد حفنة من الأوراق يبدو أنها بخط يدها مكتوب عليها "حكايتى" و مذيلة بتوقيعها . أسمح انفسى بالتلصص على خصوصيتها فأمسك بالأوراق لأقرأ ما كتبت:
 " لا أهوى الكتابة و لم  يسبق لى أن كتبت و لكننى أرى أن حكايتى الان لابد من توثيقها فأنا الى زوال قريب و لابد من أن تبقى حكايتى لعل أحد يفهم منها شيئاً فى يوم من الأيام.
لا أذكر تحديداً متى بدأ هذا الموضوع و لكن من المؤكد أنه بدأ بعد زواجى من" مصطفى "..
لم يكن مصطفى زوجاً سيئاً ابداً و لكنه كان عادياً للغاية...تقدم لخطبتى من أهلى و قبلته لأنه لم يكن هناك سبب لرفضه فهو شاب ناجح فى عمله كما أنه من عائلة مرموقة و حالته المادية جيدة جداًُ و لذلك فرفضه سيكون نوع من أنواع الحماقة الغير مبررة و قبلت به و مرت أيام الخطوبة و كان مصطفى ممتازاً و لكننى فشلت فى تكوين اى مشاعر ناحيته فقد  ظل بالنسبة لى مجرد شاب ناجح و وسيم و لكنه لا يمثل لى شيئاً خاصاً ..سيفهمنى البعض و البعض الاخر- وهم الأغلبية- سيعتبرنى حمقاء تبحث عن حب الروايات الغير موجود على أرض الواقع وتتمرد على عريس تتمناه معظم فتيات القطر المصرى و لكن هذا ما شعرت به و على العموم فقد كنت أعامل مصطفى بشكل جيد للغاية و لكنى لم أقل له ذات يوم أننى أحبه و هو الشىء الذى لم يكن يمثل له أزمة فمصطفى مختلف عنى فى هذة الناحية..هو يحب و لكن من منظور اخر و بطريقة أخرى ..يحب عمله و يحبنى لأنى خطيبته و لأنى جميلة و لأنى من أسرة محترمة أما أنا فأرى أن الحب فعل غير منطقى من الأساس و لذا لا يمكن قياسته بالعقل ابداً و اذا دخلت الحسابات فى الحب فهو يفسد تماماً فالحب هو حالة لا مبرر لها و لا أسباب و أرى أنه من العبث أن تسأل شخصاً لماذا تحب فلان ؟ عامة لم أمسك بأوراق و أكتب لأتحدث عن رأيى فى الحب , أعتذر ..سأعود الى القصة ..تزوجت من " مصطفى " فى حفل زفاف شهد كل من حضره أنه جميل للغاية و بدأت حياتى كزوجة...انصافاً للحق مصطفى لم يتغير بعد الزواج ...ظل يخلص فى عمله و ينال الترقية تلو الأخرى و يؤدى واجباته كزوج فى فراش الزوجية على أكمل وجه بدون اى تغيير..فقط كان يؤرقه عدم الانجاب و لم يكن يعلم بالحقيقة و هو اننى كنت أحرص بشدة على عدم حدوث ذلك.
لا أعرف سبباًُ و لكننى شعرت أننى لا أرغب فى الانجاب من هذا الشخص ..فالانجاب سيربطنى به بشكل ما و أنا لا أرغب فى أن أكون مرتبطة به أكثر من كوننا نتكلم قليلاً معاً فى أحاديث تقليدية .كان صموتاً بطبعه و كذلك أنا مما سهل  من مهمتى فى تجنب الحديث معه كثيراً و استمرت الحياة على تلك الوتيرة بدون جديد يذكر.
أعتقد أن الموضوع قد بدأ فى تلك الفترة ...فى البداية لاحظت أننى أحلم يومياً و أستيقظ لأتذكر كل تفاصيل الحلم كأنه واقع ثم بدأت ألاحظ أن الحلم مستمر و أن الأحداث ترتبط ببعضها  فحلمى يبدأ يومياً باستيقاظى من النوم و ينتهى يومياً بسقوطى فى نوم عميق و عندها استيقظ فى حياتى العادية و ابدأ يومى الذى ينتهى بسقوطى فى النوم و استيقاظى من النوم فى الحياة الأخرى..
فى البداية كان الموضوع مسلياً ثم أصبح كابوساً لا أفهمه ابداً و احاول منعه  وتفاديه و أصبحت أنتظر كالمجنونة أن أحلم بشىء مغاير أو الا أحلم ابداً فلا يحدث...
كانت حياتى فى الحلم جيدة جداً ...كنت أماً لطفلة تبلغ من العمر أربعة أعوام سميتها " سلمى " و كان أبوها الذى هو زوجى يعمل بالامارات مهندساً للبترول و يدعى "أمجد " و كان يحادثنى كلما سنحت الفرصة ..كنت أحبه جداً كما كان حبى لسلمى لا يوصف.
كانت حياتى الثانية هادئة للغاية و لا يشوبها اى مشاكل..فقط مشاكل طفيفة مع جار متطفل يرغب فى ادعاء الشهامة مع انها اخر صفة يمكن أن يوصف بها ..الأحداث فى الحياة الثانية لا يمكن ابداً أن تكون حلماً فلا يوجد حلم بهة المنطقية و الترتيب و التسلسل كما أنه لا يوجد حلم يقسم الى حلقات أعيش منها كل يوم حلقة.
ايضاً ملحوظة هامة هو أننى لم أشعر مطلقاً أننى أحلم فى الحياة الأخرى ..كانت الأحداث تمر كأنها حقيقية ..كلا بل هى حقيقية ..حقيقية أكثر من الحقيقة ..أصبحت أحب حياتى الأخرى أكثر من حياتى الأصلية و أصبح نومى كثيراُ و أكره شعور الاستيقاظ من النوم الذى يأخذنى من الحياة الأخرى و أصبحت أفتقد سلمى و أمجد –زوجى الاخر- عندما أكون مستيقظة مما أثر على أعصابى فأدمنت التدخين و أصبحت شديدة العصبية مع كل من حولى خصوصاً عندما اقترب موعد عودة أمجد من الامارات لقضاء الأجازة السنوية ..أصبحت أيامى مع مصطفى أكثر تعاسة..كنت أثور لأتفه الأسباب ..أرفض أن يقترب منى أو يلمسنى فأنا مخلصة لأمجد الذى تربطنى به ذكريات جميلة و قصة حب رائعة لا أتذكر تفاصيلها الا عندما أذهب لأنام فعندها أجلس أحكى سلمى الصغيرة عن أبيها و عن قصتى معه التى يجب أن تخلد فى كتاب رائع ..
تلقائياً أصبحت لا أتحدث مع أحد و خصوصاً مصطفى ذلك الرجل الذى يدعى أنه زوجى و يحاول التقرب منى ..فقط أجلس فى ملل أدخن و أنتظر العودة لسلمى و لأمجد الذى يصل مصر بعد أيام قليلة ...لا أملك الكثير من الوقت قبل وصوله و لابد من اعداد كل شىء قبل وصوله و ذلك السخيف مصطفى يصر على اهدار وقتى و مجهودى فى محاولة الحديث معه و معرفة ما حل بى ..
عاد أمجد و قضينا معاً أياماً شبيهة بأيام شهر العسل و لكن فى وجود ملاكنا الرائع سلمى و كعادة الأيام جميلة انقضى الوقت سريعاً و عاد أمجد الى الامارات و أصبحت لا أطيق مجرد رؤية مصطفى و طلبت الطلاق و على الرغم من اتهامات أهلى لى بالجنون و محاولات السخيف مصطفى للعودة تم الطلاق و عدت الى منزل أهلى أقضى أوقاتاً مملة بالنهار و أصبحت أكثر  من تناول المنومات من أجل أن أذهب الى سلمى و أمجد و فى الحياة الأخرى أحرص على السهر قدر المستطاع و عندما يهاجمنى النوم أقاومه بشدة و مؤخرأً أصبحت أسقط مغشياً على فى أى مكان من فرط الارهاق.
مؤخرأً تداخلت الحياتان معاً و لم أعد أدرى أين الحياة الأصلية و أين الحلم ..لم يصبر أهلى على أكثر من هذا و قرروا ايداعى هذا المكان الذين قالوا أنه كفيل بأن يقضى على أى هواجس موجودة بداخلى ..أحمد الله أننى من أسرة مثقفة و الا لكانوا قالوا أننى ممسوسة من الجن.
من قال أنها هواجس ؟ و على افتراض انها هواجس . من قال أننى أرغب فى انهائها و لو كان هذا المكان سيقضى على حياتى مع سلمى و أمجد  فسيكون أكثر الأماكن التى أكرهها فى حياتى
الى هنا تنتهى قصتى ..لا أهتم ان كان الطبيب اللعين يصدقها أم لا و لا أهتم ايضاُ ان كان من سيقرأها سيصدقها أم لا
داخلياً أرغب الا يقرأ أحد تلك الأوراق و أن يكون ما أنا فيه الان و أنا أكتب هو الحلم اما الحقيقة فتكون حياتى مع سلمى و أمجد....لو تم هذا سأكون فى غاية السعادة اما لو قرأت هذة الأوراق فاللعنة عليك فها أنت ذا تؤكد أننى لا أحلم الان و أن الحياة مع سلمى و أمجد هى الخيالية فأذهب الى الجحيم ايها القارىء "
   انتهت


كانت الأمطار قد صارت سيولاً و اقترب الليل من الانتصاف فأعدت الأوراق الى مكانها و نظرت اليها وهى نائمة تعجبت من مدى سردها للقصة بهذة الدقة و كذلك تعجبت أكثرمن وصفها لى بالطبيب اللعين رغم أننى أحاول مساعدتها  ...
خرجت من الغرفة و أغلقت الباب خلفى و أنا أسأل هل هذة السيدة مريضة حقاُ أم أن ما قالته حقيقياً و يفوق قدرتنا على التصديق؟
سيظل هذا السؤال بلا اجابة على الأقل فى الوقت الحاضر. .......